ماذا لو قتلت إسرائيل كلّ مواطن فلسطيني في غزّة؟ الرجال والنساء؟ الشيخ والشابّ؟ الكهول وحديثي الولادة؟ المحاربين والمدنيين؟ سكّان الأبراج وسكّان المخيّمات؟ الذين فوق الأرض والذين في الأنفاق؟
ماذا لو نجحت إسرائيل، افتراضاً لا قدّر الله، أن تفعل ذلك وتحقّق الهدف النهائي من أعمالها الإجرامية؟ تعالوا نناقش هذه الفرضية الموغلة في التطرّف الغارقة في الدموية؟
ماذا علّمنا التاريخ؟
منذ بدء التاريخ، خسرت البشرية ما مجموعه 754,758,805 ضحايا. في الحرب العالمية الأولى من 1939 حتى 1945 خسرت 85 مليوناً، وفي غزو المغول خسرت 70 مليوناً، وفي غزو الأميركيين خسرت 8.5 ملايين، وفي الحرب العالمية الأولى 40 مليوناً، وفي الحرب الأهلية الصينية 8 ملايين، وفي حرب سقوط الأندلس 7 ملايين، وفي حرب فرنسا الدينية 2 مليون.
هذه الخسائر البشرية والمادّية في الإنسان والاقتصاد والعمران لم تحسم أمراً بشكل نهائي وما تزال لها تداعيات متجدّدة.
ما يحدث اليوم على أرض الواقع يمهّد بتسارع إلى تحقيق هذا المشروع الإجرامي وهذه الفرضية التي تبدو مجرّدة من الإنسانية ومناقضة لكلّ قوانين الحروب ومبادئ حقوق الإنسان.
نتانياهو سوف يقول أيّ شيء وكلّ شيء إلا الاعتراف بالتقصير أو ربّما يقول “التفاوض على أساس حلّ الدولتين”
بعملية حسابية دقيقة حتى تاريخ مساء الخميس الماضي لو قمنا برصد أرقام العمليات وحجم القصف وحجم الخسائر فسوف نكتشف الآتي مع الإشارة إلى أنّ عملية الاحتساب تقوم على فرضية حسابية يتمّ فيها تحديد كلّ كيلومتر من قطاع غزّة ومحافظاته البالغ حجمها 360 كيلومتراً مقابل حجم التدمير الإجرامي الإسرائيلي:
1- 29 شهيداً مقابل كلّ كلم.
2- 129 جريح مقابل كلّ كلم.
3- 3390 نازحاً مقابل كلّ كلم.
4- 210 قذائف من البحر والبرّ والجوّ مقابل كلّ كلم (عادية أو محرّمة، صاروخية أو قذيفة، من مسيّرة أو من مدرّعة).
المسألة لا تحتاج إلى محلّل استراتيجي كبير لمعرفة من الذي سوف يسبّب الضرر الأكبر والأعظم لعدوّه في هذه المواجهة الدموية. إسرائيل تنفق سنوياً 24 مليار دولار على الدفاع، بالإضافة إلى الدعم الأميركي الجديد عقب 7 أكتوبر، مقابل ما يقدّر بـ300 مليون دولار لموازنة حماس للتسليح والأجور والرواتب.
تمتلك إسرائيل ترسانة تسليح تجعلها الدولة رقم 14 في التسلّح عالمياً والثالثة في البحر المتوسط، مقابل لا تصنيف لدى حركة حماس.
تمتلك إسرائيل شبكة دفاع جوّي تُعتبر واحدة من الأقوى في الصناعة العسكرية (القبّة الحديدية ومقلاع داوود) مقابل لا شبكة دفاع مضادّ للطائرات عند حماس.
صواريخ إسرائيل ذات رؤوس دقيقة وصواريخ حماس بدائية مصنوعة في ورش محلية تبدأ من القدرة على إصابة أهداف على بعد 10 كلم وصولاً إلى أبعد صاروخ يصل مداه إلى 250 كيلومتراً.
قوّة القتال الإسرائيلية 360 ألف مقاتل بينما تمتلك حماس 31 ألف جندي.
خطوط الإمداد والتموين للجيش والسفن الإسرائيلية لديها احتياطي لا يقلّ عن 18 شهراً، بينما شعب غزّة يعاني بعد 26 يوماً من النقص الحادّ في كلّ أساسيات الغذاء والماء والمحروقات وانقطاع وسائل الاتصالات.
الشيء الوحيد الذي يُحسب لمقاتل حماس هو أنّه يذهب إلى القتال ساعياً إلى الشهادة، فيما يحلم المقاتل الإسرائيلي بالعودة سالماً إلى أسرته ومعارفه.
ما يحدث اليوم على أرض الواقع يمهّد بتسارع إلى تحقيق هذا المشروع الإجرامي وهذه الفرضية التي تبدو مجرّدة من الإنسانية ومناقضة لكلّ قوانين الحروب ومبادئ حقوق الإنسان
لا جدوى للإلغاء
إذاً لو افترضنا أنّ هذه العمليات أدّت إلى هذه الفرضية الدموية المجنونة بعد يوم أو أسبوع أو شهر فهل يكون الصراع في جوهره وأسبابه وتداعياته قد تلاشى وانتهى؟
مبدأ الإلغاء والتطهير العرقي والتصفية الجسدية لم يصحّ أبداً على مرّ التاريخ؟
.. بقي الأرمن وأصبحت لهم دولة على الرغم من مذابح الأتراك.
.. بقي المسلمون في يوغوسلافيا على الرغم من التطهير العرقي الذي قام به جنرالات الصرب.
.. بقي الفكر النازي والفكر الفاشي على الرغم من انتحار هتلر وإعدام موسوليني.
.. بقيت إمبراطورية اليابان على الرغم من جريمتي هيروشيما وناكازاكي.
.. بقيت معاهدة السلام على الرغم من اغتيال السادات.
.. استمرّ داعش على الرغم من تصفية الزرقاوي وبقي “القاعدة” بعد اغتيال بن لادن واستمرّت أدوار الحرس الثوري الإيراني بعد اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس.
.. استمرّت أفكار الانتفاضة الفلسطينية بكلّ أشكالها عقب تصفية أبي جهاد وأبي أياد وأبي الهول.
.. بقيت حماس بعد اغتيال أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأبرز القيادات الميدانية العسكرية ومخترعي الصواريخ والأسلحة النوعية.
يقول تشي غيفارا: “النضال ردح”، ويقول فيديل كاسترو “الثورة فكرة”، ويقول حسن البنّا (الذي اغتيل) “الإخوان عقيدة ونضال”.
من هنا يصحّ استخدام كاتم الصوت أو الصواريخ الخارقة لباطن الأرض أو حتى القنبلة النووية، لكنّها غير ذات فائدة وقوّة بائسة يائسة لن تؤدّي إلى تحقيق تسوية أخيرة لأيّ هدف نهائي.
تكبّدت إسرائيل حتى تاريخه أكثر من 8 مليارات تكاليف للعمليات اليومية وفقدت بورصتها 5% من قيمتها ودفع البنك المركزي أكثر من 45 مليار دولار لإنقاذ الأسواق وفقدت من عسكريّيها ومدنيّيها 360 عسكرياً بالإضافة إلى أكثر من 4 آلاف جريح ما بين 213 إلى 250 أسيراً يقال أنّ ثلثهم من العسكريين.
نتانياهو أصابه جنون الانتقام وهستيريا تقصيره المخيف نتيجة إخفاق 7 أكتوبر.
إقرأ أيضاً: إسرائيل استثمار أميركيّ متعثّر ومحرج ومكلف
من هنا قام الرجل مع استعداد لدفع أكبر الفواتير الدموية والمالية كلفة من أجل الانتقام الدموي الأجمع الذي لا يملك بوصلة مشروع سياسي حقيقي يؤدّي إلى تسوية.
نتانياهو سوف يقول أيّ شيء وكلّ شيء إلا الاعتراف بالتقصير أو ربّما يقول “التفاوض على أساس حلّ الدولتين”.
يقول محمود درويش في ديوانه الأخير عن البقاء في أرض فلسطين “إمّا نحن أو إمّا نحن”.
هذا المنطق سواء من حماس أو نتانياهو قائم على نهج من الحقد الفلسطيني أو الحقد التوراتي وأنّ الأرض لي من البحر إلى النهر. منطق تبيّن أنّه لن يؤدّي إلا إلى جولات من الجحيم الأبدي المتكرّر.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Adeeb_Emad@