جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة بمنزلة “هديّة” لقيصر روسيا فلاديمير بوتين، فيما جلبت الصداع لخصمه اللدود الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي خفت نجمه العالمي خلف دخان النار في القطاع وتقلّص الدعم العالمي الذي كان ينهال عليه.
غزة شتّتت تركيز واشنطن وأوروبا وحلفاء كييف عن الغزو الروسي لأوكرانيا، في وقت بدأ الغرب يُظهر بوادر الإرهاق من دعمه المادّي والعسكري اللامحدود لقوات زيلينسكي العاجزة عن تحقيق تحوّل في الميدان يقلب المعادلات في موسكو. نقلت “نيويورك تايمز” عن مسؤولين عسكريين في واشنطن قولهم لنظرائهم الأوكرانيين الذين جاؤوا طلباً للدعم والذخيرة والسلاح من مخزونات غربية غير موجودة أصلاً، إنّه بات عليكم استكمال المعركة بميزانية أقلّ واعتماد استراتيجية “التمسّك والبناء”، أي التمسّك بالبقيّة الباقية من أرضكم والتركيز على الإنتاج الذاتي للأسلحة. هذا ما يسرّ حاكم الكرملين الذي نجح في إعادة بناء قواته بعد الصفعات المتتالية التي تلقّاها العام الماضي في الميدان، وزاد من قدراته الجوّية بأسطول من الطيّارات المسيّرة التي حصل على الكثير منها من إيران.
لم يتخلّوا عن كييف
رعاة أوكرانيا الغربيون حوّلوا انتباهم وقدراتهم العسكرية نحو إسرائيل التي كشفت عن خلل كبير يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول). لكنّ ذلك لا يعني تخلّيهم عن كييف. بيد أنّ تراجع حجم المساعدات لها يعني أنّ الكفّة العسكرية ستميل لمصلحة خصمها على الأرض. وقد يؤدّي ذلك إلى ابتلاعه مساحات شاسعة جديدة من أرض جارته بما في ذلك أوديسا وميكولاييف، قبل التوصّل إلى اتفاق سلام أو هدنة اضطرارية.
من خلال ثغرة الحرب سعت موسكو إلى اغتنام الفرصة لعرض عضلاتها الدبلوماسية في الشرق الأوسط، بعد فترة من الابتعاد عن المسرح العالمي
سيّد الكرملين الذي كان محاصَراً في قصره، كسر طوق الحصار الدولي، وتفلّت من الملاحقة الجنائية ليزور المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ساعياً إلى تحسين العلاقات وتحقيق المزيد من المكاسب بإعادة رفع أسعار النفط بعد تراجعها بسبب الركود الاقتصادي العالمي، الأمر الذي يساعده في زيادة الإنفاق الدفاعي عام 2024.
من خلال ثغرة الحرب سعت موسكو إلى اغتنام الفرصة لعرض عضلاتها الدبلوماسية في الشرق الأوسط، بعد فترة من الابتعاد عن المسرح العالمي. ألقى بوتين باللائمة في الحرب على غزة على السياسة الأميركية، التي اتّهمها بـ”احتكار تنظيم” الصراع وتجنّب الحلول ذات المنفعة المتبادلة. وقدّم روسيا باعتبارها صوتاً لخفض التصعيد، محاولاً بذلك الإفادة من الارتياب من موقف الولايات المتحدة المؤيّد بالكامل لإسرائيل لإعادة صوغ شراكات مع دول الإقليم المنزعجة من واشنطن. فقد شرّع أبوابه أمام إيران ومصر والعراق، إضافة إلى السعودية والإمارات. والأهمّ أنّه أعاد تحسين العلاقات مع تركيا حيث كان الطرفان يتحرّكان بحذر في سوريا. وشهد الصراع الأوكراني محاولة أنقرة موازنة علاقاتها مع الجانبين. لكنّ حرب غزة قلبت الصورة ووضعت أنقرة على خطّ واحد مع موسكو، في توجيه اللوم إلى إسرائيل والنقد إلى واشنطن.
بذلك تلمّح موسكو إلى نيّتها العودة إلى ملفّ الصراع العربي الإسرائيلي الذي أُخرجت منه عنوة عام 1972 بقرار الرئيس المصري الراحل أنور السادات طرد الخبراء السوفيت من بلاده. وإذا كان من غير المرجّح أن تؤدّي الدبلوماسية الروسية الجديدة إلى أيّ اختراق سياسي، فإنّ موسكو على الأقلّ تثبت أنّها ليست معزولة في المنطقة.
غزة ولينيغراد
بوتين الذي استقبلت إدارته وفداً من “حماس”، شبّه ما يجري في غزة بحصار الألمان النازيين للينينغراد السوفيتية خلال الحرب العالمية الثانية. وهكذا لم يضع فقط الدولة العبرية في مرتبة ألمانيا النازية، بل وضع أيضاً غزة في موضع مدينته ومسقط رأسه. ابتعاد روسيا عن إسرائيل على الرغم من علاقتها الودّية معها، وإعلانها المبكر دعم حلّ الدولتين، قد يعني لها إمكان حصولها على الدعم السياسي في العالم الإسلامي، وهذا ما قد يُحرج الكثير من الدول العربية والإسلامية من مواصلة دعم كييف علناً. هنا، ربّما أخطأ زيلينسكي بدعمه الصريح لإسرائيل وصمته عن مجازر غزة بعدما استقبلته جامعة الدول العربية ضيفاً كبيراً في قمّتها السابقة. وفي المقابل سعى بوتين إلى كسب تعاطف مسلمي روسيا الذين يتجاوز عددهم 25 مليوناً، بعدما تركهم يعبّرون في مناطقهم، ولا سيما في داغستان والشيشان، عن غضبهم من مشاهد الإبادة التي يتعرّض الغزّيّون.
حتى اللحظة تنظر روسيا إلى أزمة غزة كفرصة مؤاتية لتخفيف الضغط عنها في أوكرانيا ولخدمة أهدافها في شأن إعادة صوغ النظام الدولي الجديد من بوّابة كسر الاحتكار الأميركي في صناعة القرار العالمي، لكن لا تتوافر لديها خطة شاملة حول طبيعة مشاركتها المرتقبة أو الممكنة في وقف التصعيد في غزة وحدود هذه المشاركة وإمكاناتها. ولكنّ هذه الخطوة الروسيّة المأمولة بشأن دور أكثر فعّالية داخل الملفّ الفلسطيني في ظلّ تطوّراته الحالية، لن يكون ممكناً إذا كان منفرداً، ومن الأفضل أن يتماشى هذا الدور مع دور فاعل للصين، تحقيقاً لتوازن لا يزال مفقوداً في إدارة الملفّات الكبرى في العالم. لكنّ بكين التي تكتفي بدور المراقب من بعيد لما يجري من أحداث، ليست بوارد التورّط في الحروب ولا ملء فراغ أيّ دور قيادي عالمي، ولا موسكو قادرة على فتح جبهة صراع جديدة، وليس لها حضور سياسي فاعل في ساحات القتال.
إقرأ أيضاً: القيود الأميركيّة على المستوطنين: ليس حبّاً بالفلسطينيّين
كما أنّ احتمال توسّع الحرب في غزة لتصير إقليمية قد يشكّل تهديداً للنفوذ الروسي في المنطقة. ذلك أنّ أيّ حرب واسعة على الجبهة اللبنانية مثلاً لن تبقي المواقع الإيرانية في سوريا خارج نيرانها. ومن شأن أيّ تطوّر دراماتيكي أن يعرّض القوات البرّية الروسية في سوريا للخطر، ويزيد من خطر المواجهة المباشرة بين إسرائيل والقوات الروسية المتمركزة هناك. علماً أنّ موسكو في سوريا تحرص على مسك العصا في المنتصف بين إيران وإسرائيل، إذ تطلق يد الأولى في الانتشار وإمداد حلفائها بالسلاح، وتغضّ الطرف في المقابل عن قصف الثانية للمواقع العسكرية الإيرانية.