المواقف الأوروبية من مأساة غزّة أحجية يصعب حتى على المنجّمين فكّ طلاسمها. في السرّ تقول الحكومات شيئاً وفي العلن تنطق عكسه. ما بين الليل والنهار تتغيّر المواقف مع تبدّل عقارب الساعة. ترفع مبادىء وشعارات وتتغنّى بحقوق الإنسان والدفاع عن القيم الإنسانية ثمّ لا تلبث أن تفيض في سرد التبريرات وتفنيد الذرائع والحجج للتغطية على جرائم لا يصدّقها عقل بشري ضدّ المرضى والأطفال والمدنيين العزّل. وادّعاءاتها عن مواقفها “المتوازنة” من العدوان المستمرّ تكذّبها شوارع مدنها التي تغصّ يومياً بحشود هائلة من المتظاهرين المندّدين بما تقترفه إسرائيل في غزّة والرافضين لمواقف دولهم إزاء الجريمة.
الانحياز الأعمى لإسرائيل
ردّ الفعل الأوروبي الأوّلي على “طوفان الأقصى” كان الانحياز الأعمى لإسرائيل والتعاطف المطلق معها والدعم الهائل لها، وتجاهل حقيقة أنّ الاحتلال الثقيل الذي صنعه الأوروبيون بأنفسهم والحصار الخانق لغزّة والإذلال اليومي للفلسطينيين هي المفجّر الرئيسي لغضب فتيان الأرض المحتلّة. ثمّ أظهرت بعض العواصم الأوروبية شذرات حياء إزاء المجازر المهولة في مشافي القطاع ومراكز إيواء النازحين، ثمّ ما لبثت أن تراجعت عن حيائها وعاودت سوق التبريرات وإظهار الدعم المطلق لنتانياهو وآلته العسكرية الفظيعة.
في بريطانيا، أصل العلّة الفلسطينية والوعد، ظهر تناقض، فنُظّمت تظاهرات استثنائية دعماً لفلسطين في مقابل عنصرية عمياء ضدّهم أرغمت بصلافتها رئيس الوزراء ريشي سوناك على إقالة وزيرة داخليّته
الضغط الشعبي في الشوارع وهول المجازر أربكا عواصم القرار الأوروبي، لكنّهما لم يغيّرا مواقفها. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أظهر صهيونيّته أكثر من الإسرائيليين، وقف حائراً بين التزامه المطلق دعم حكومة الحرب الإسرائيلية وبين التزامه مواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي، فبدا هزيلاً ضعيفاً دونه فرق شاسع مع سلفه شارل ديغول. رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون درلاين زايدت على الإسرائيليين في الدفاع عنهم، حتى بدت نقيضاً لزميلها في الاتحاد جوزيب بوريل الذي أخجله الدم المباح للأطفال فوقف حائلاً دون قرار للاتحاد بوقف المساعدات للفلسطينيين. في ألمانيا التي تتملّكها عقدة ذنب “الهولوكوست” رفض المستشار أولاف شولتس الموافقة على وقف النار على عكس وزيرة خارجيته أنالينا بيربوك التي دعت إلى مراعاة الجانب الإنساني ووقف القتل.
التمايز بين إيرلندا وإسبانيا
في المقابل، كانت بطبيعة الحال إيرلندا التي لا تزال ذيول الاستعمار البريطاني حيّة في ذاكرتها، الأكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين على المستويين الرسمي والشعبي إدراكاً منها لبشاعة المحتلّ. ومثلها فعلت الحكومة الاشتراكية في إسبانيا التي لم توفّر نتانياهو وحكومته من انتقاداتها اللاذعة. أمّا أوروبا الشرقية التي يتقدّم فيها اليمين والتطرّف القومي وتعيش هاجس المهاجرين والنقاء الديني والثقافي والقلق من التوسّع الروسي، فترى في إسرائيل مثالاً للدولة القومية المغلقة يحتذى به، وتجد فيها دعماً عسكرياً واقتصادياً ملحّاً في ظلال الحرب الأوكرانية، فضلاً عن أنّ هجرة معظم يهود أوروبا الشرقية إلى إسرائيل تحوّلت إلى عامل تفاهم مشترك بينهما.
في بريطانيا، أصل العلّة الفلسطينية والوعد، ظهر تناقض، فنُظّمت تظاهرات استثنائية دعماً لفلسطين في مقابل عنصرية عمياء ضدّهم أرغمت بصلافتها رئيس الوزراء ريشي سوناك على إقالة وزيرة داخليّته.
لا يمكن لأوروبا أن تستعيد قوّتها ومكانتها العالمية إلا باستعادة التوازن المفقود حالياً، فالعالم يتغيّر وتشتدّ الصراعات فيه، وبات بأشدّ الحاجة إلى وسيط نزيه شفّاف وعادل بإمكانه قيادة وساطات وتسويات ناجحة
ما سبب الانحياز الغربي؟
الانحياز الأوروبي لإسرائيل والالتزام بأمنها محكومان بأربعة عوامل أساسية:
– أوّلها، العقدة التاريخية الناجمة عن الحرب العالمية الثانية والمحرقة اليهودية التي ارتكبتها ألمانيا النازية بمشاركة دول أوروبية عدّة، والعمل الإسرائيلي الدؤوب لاستغلال هذه العقدة وتوظيفها في الابتزاز المالي والسياسي.
– ثانيها، وجود تيّار واسع في أوروبا يعدّ إسرائيل جزءاً أصيلاً من الثقافة الأوروبية وامتداداً لها. وسعى البعض إلى تضمين هذه الفكرة في الدستور الأوروبي الموحّد. لكنّ هذه الفكرة لاقت معارضة من اليمين التقليدي، قبل أن يتراجع دوره لمصلحة اليمين المتطرّف الذي يعتبر الدولة العبرية “خطّ الدفاع عن أوروبا في وجه الإرهاب”، وسدّاً أمام موجات الهجرة الآتية من الشرق.
– ثالثها، تنامي نفوذ اللوبي اليهودي داخل الحكومات والمؤسسات الاقتصادية والإعلامية الكبرى والمؤثّرة وتحويل أقنية تلفزيونية وصحف ومواقع إلكترونية واسعة الانتشار إلى منصّات مفتوحة ومدعومة لتسويق الدعاية الإسرائيلية.
– رابعها، التبعية الأوروبية الكاملة للسياسة الأميركية، وتحويل الاتحاد الأوروبي من عملاق اقتصادي إلى قزم سياسي وعسكري، الأمر الذي ظهر جليّاً في الانصياع الأوروبي الكامل لواشنطن في حرب أوكرانيا، وضدّ المصالح الأوروبية أحياناً، ومنع الاتحاد من تكوين جيشه الخاصّ ليظلّ تحت الحماية الأميركية. وهذا ما جعل السياسة الخارجية الأوروبية أسيرة للسياسة الأميركية، ولا سيما ما يتعلّق منها بإسرائيل وأمنها.
صعود “المسألة العربية والإسلامية”
لكنّ مواصلة الحكومات الأوروبية الدعم المطلق لإسرائيل والتغطية على جرائم الإبادة التي ترتكبها، ستؤسّس لشرخ كبير بين القوى الحاكمة ومواطنيها من أصول مهاجرة. ويوجد أصلاً هوّة واسعة بين الطرفين ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً وصلت إلى حدّ الانفجار في فرنسا ودول أخرى. وبات الآن الهاجس الأمني مصدر صداع وقلق لباريس ولندن وبروكسيل وبرلين على عكس دول الجنوب الأوروبي الأقرب إلى العالم العربي والتي لديها مواقف أكثر توازناً لأنّها أكثر فهماً لهذه الحساسية.
إقرأ أيضاً: هل من “أخلاق سياسية” في المشهد العالمي؟
إذا كانت المسألة اليهودية تشكّل أرقاً لأوروبا ومحرّكاً لسياساتها، فإنّ المسألة العربية والإسلامية في الداخل الأوروبي تتحوّل إلى أرق أكبر إذا ما أُهملت أو استُفزّت، ولذلك ثمّة حاجة أوروبية إلى إيجاد توازن دقيق بين المسألتين حتى لا تتحوّل الشوارع الأوروبية إلى خطوط تماسّ ومواجهة.
لا يمكن لأوروبا أن تستعيد قوّتها ومكانتها العالمية إلا باستعادة التوازن المفقود حالياً، فالعالم يتغيّر وتشتدّ الصراعات فيه، وبات بأشدّ الحاجة إلى وسيط نزيه شفّاف وعادل بإمكانه قيادة وساطات وتسويات ناجحة.