غزّة: إبادة الهويّة والتاريخ… من الجدّ حتى الحفيد (2/1)

مدة القراءة 8 د


لم يعد الحديث عن ارتكاب إسرائيل محرقة بحقّ غزة وأهلها كافياً لتوصيف ما يحيق بها، فهذه المحرقة مستمرّة ومتواصلة وتتجدّد كلّ ساعة منذ السابع من تشرين الأول الماضي. ونارها لا تصيب أهل غزة فقط، وإنّما تلسع الفلسطينيين في الضفة الغربية وصولاً إلى أولئك الذين في الشتات، لأنّها تتعدّى استهداف الإنسان والمكان لتطيح هويّته الوطنية والآدميّة. وأكثر من هذا كلّه، فإنّ الأمر يجري على مرأى ومسمع من العالم أجمع، من دون أدنى محاولة جدّية لوقفه.
كلّ ذلك تديره إسرائيل في إطار منظومة دمار شامل تغشى كلّ ما هو قابل للحياة في غزة، وتطال ما يمكن له أن ينطق أو يتشكّل بلسانها ووجهها الفلسطينيَّين. ولا تتعلّق المسألة بفداحة مستوى القتل الذي يتعرّض له سكان قطاع غزة على مدار الساعة، إذ يُتوقّع أن يتجاوز عدد الإصابات، بين قتيل وجريح ومصاب ومفقود، إلى مستوى مئة ألف، بل إنّها تشمل أيضاً تدمير وتخريب المنازل والمساكن والمرافق العامّة والطرقات وكلّ ما يرتبط بوجود حياة آدمية في القطاع.

إبادة التاريخ الفلسطيني والإنساني
ربّما ما حلّ بالعنصر البشري وما يزال، سيظلّ الشاهد الأكبرعلى فظاعة المأساة، لكنّه لا يطغى على التخريب الذي لحق بهويّته التراثية وإنتاجه المادّي والمعنوي، حيث امتدّت الضربات لتصيب مختلف أشكال الهويّة الفلسطينية الاجتماعية والثقافية والعلمية والحضارية، مع تدمير المساجد والكنائس والمدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز الثقافية، وحتى مباني البلديات والمكتبات العامّة التي تحتضن آثاراً ووثائق ومخطوطات تشهد على هويّة غزة الممتدّة في عمق التاريخ الفلسطيني والإنساني.

لم يعد الحديث عن ارتكاب إسرائيل محرقة بحقّ غزة وأهلها كافياً لتوصيف ما يحيق بها، فهذه المحرقة مستمرّة ومتواصلة وتتجدّد كلّ ساعة منذ السابع من تشرين الأول الماضي

ثمّة أكثر من مئة عائلة، حسب تقديرات أوّلية، أبادها الاحتلال الإسرائيلي في محرقة غزة هذه، فلم يبقَ جدّ، ولا أب، ولا حفيد، ولم يعد هناك من يجدّد أسماءهم في سجلّ السكان.
في الإصابات البشرية سجّلت أعداد القتلى بين الأطفال رقماً قياسياً تاريخياً وفق ما أكّدته منظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية التي قالت من ضمن ما نشرته في بياناتها حول ما يجري في غزة إنّ “عدد الأطفال الذين قُتلوا في الشهرين الأوّلين في غزة يفوق عدد من قتلوا من أطفال في جميع الصراعات العالمية خلال العامين الماضيين”. وأشارت مختلف الإحصاءات الخاصة بالعدوان على غزة إلى أنّ أكثر من 70 في المئة من الضحايا هم من الأطفال والنساء.
ليست حادثة إجبار الجيش الإسرائيلي العاملين في مستشفى النصر أخيراً على ترك أطفال خدّج ليموتوا وتتحلّل وتتعفّن جثثهم، سوى واحدة من قصص لم تُروَ بعد حول فظاعة ما تعرّض له سكان القطاع، عدا عن منع المسعفين والناس من الوصول إلى جثث القتلى في الشوارع وتحت الأنقاض لتنهشها الكلاب. وقالت منظمة اليونيسف إنّ الأطفال بقطاع غزة يصلون للمستشفيات بعظام مكسورة والشظايا تخترق أجسادهم ويعيشون دون طعام ولا ماء لأيام، وإنّ المستشفيات بغزة أصبحت ساحات حرب وميادين معارك، مؤكّدةً أنّ هناك ظروفاً صعبة جداً تمنع تقديم المساعدات داخل غزّة، وأنّ الوضع الآن قاتم وقاتل.

المقارنة.. بين العاصفة والتسونامي
ربّما كان في توصيف الطبيب البريطاني الفلسطيني غسان أبو ستة الخبير في العلاج وقت النزاعات والحروب، ما يحمل الكثير عن تجربته الأخيرة في مستشفيات غزة. إذ قال أبو ستة في إحدى المقابلات الصحافية: “المقارنة بين ما شهدته في هذه المرّة في غزة وبين مواجهات أخرى، أشبه بمقارنة التسونامي مع العاصفة”.
اضطرّت مستشفيات غزة التي تبلغ قدرتها الاستيعابية نحو 2,500 سرير مجتمعة، إلى استقبال عشرات آلاف الحالات. وقد توقّف معظمها، إن لم يكن جميعها، عن تقديم الخدمة بسبب نفاد الوقود ونقص المستلزمات الطبّية، ناهيك عن أنّها جميعاً تعرّضت للقصف الإسرائيلي ولمداهمات القوات الإسرائيلية. واضطرّت الطواقم الطبية إلى إجراء عمليات جراحية دون استخدام البنج وفي ضوء مصابيح الهواتف النقّالة.
نتيجة لإصرار إسرائيل على تهجير سكّان غزة قسراً، نزح أكثر من مليون منهم من شمال القطاع إلى جنوبه تحت تهديد الموت وتضليلهم بأنّ الجنوب منطقة آمنة، فقصفتهم المقاتلات وهم في طريقهم إلى الجنوب ولاحقتهم كي تقتلهم وتقتل من احتموا بهم. وأخيراً راح الهجوم الإسرائيلي المتواصل يدفع بهم جميعاً إلى التوجّه إلى مدينة رفح في أقصى الجنوب التي لا تقوى على توفير الأمان والمأوى لمن سكنوها أصلاً. وفي غضون ذلك عمدت القوات الإسرائيلية إلى إرباك النازحين والمقيمين بالطلب إليهم التوجّه إلى مربّعات رقّمتها على خرائط ألقتها عليهم من طائراتها، لكنّها مربّعات لا وجود فعليّاً لها.

ثمّة أكثر من مئة عائلة، حسب تقديرات أوّلية، أبادها الاحتلال الإسرائيلي في محرقة غزة هذه، فلم يبقَ جدّ، ولا أب، ولا حفيد، ولم يعد هناك من يجدّد أسماءهم في سجلّ السكان

“إجبار” مصر والعالم على استقبال اللاجئين
تريد إسرائيل دفع الفلسطينيين نحو الجنوب باتجاه شبه جزيرة سيناء المصرية، وخلفهم سيكون ما بقي من أطلال في القطاع شاهداً على منطقة محروقة غير صالحة للعيش الآدمي. عندها لن تضطرّ مصر وحدها إلى التعامل مع الموضوع، بل سيتوجّب على دول المنطقة والأمم المتحدة وهيئاتها ومنظّماتها تولّي مسؤولية هذه الكارثة الإنسانية ووضع حلول لها.
ومع ذلك، يبدو أنّ إسرائيل لم تغفل أن تخفي وتزيل معظم معالم الهويّة الفلسطينية في قطاع غزة، وقد صرّح أكثر من مسؤول فيها عشية العدوان أنّهم منطلقون في مهمّة تستهدف “محو غزة”. ومثال ذلك القصف ما تعرّضت له بلدية غزة، وهي البلدية التي تأسّست عام 1893 قبل نحو نصف قرن من إقامة اسرائيل. وأوضحت بلدية غزة في بيان للصحافة أنّ “هدف الاحتلال إدخال المدينة في حالة من الفوضى وتدمير كلّ ما يرمز إلى تاريخها وحضارتها، لا سيما أنّ الأرشيف يضمّ وثائق تاريخية يزيد عمرها على القرن”.

إحراق المكتبات تدمير الآثار
حسب البيان وفيديوهات نشرتها قنوات فضائية “تسبّب قصف طائرات الاحتلال الإسرائيلي الذي تعرّض له مبنى الأرشيف المركزي التابع للبلدية باحتراق آلاف الوثائق التاريخية، وقد تعمّد الاحتلال قصف المبنى وإحراق الوثائق التي توثّق لمباني المدينة، ومراحل تطوّرها العمراني”. وهي وثائق تاريخية قديمة عمرُها أكثر من 150 عاماً، إضافة إلى خرائط ودراسات هندسية ودوائر التحكّم والمراقبة في آبار المياه وشبكات الصّرف.
كما طالت نيران الاحتلال المكتبة العامّة التابعة لبلديّة غزّة، الواقعة في شارع الوحدة وسط المدينة، وهي الكبرى في غزّة، وتحتوي على وثائق وكتب تاريخية يعتبرها سكّان المدينة جُزءاً أصيلاً من ذاكرة البلاد وحاضرها.
أفادت صحيفة “الأيام ” الصادرة في رام الله أنّ “منظمة تراث من أجل السلام الدولية”، ومقرّها إسبانيا، كانت أجرت مسحاً للمواقع الأثرية والتراثية التي تضرّرت جرّاء قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، مُدوّنةً نتائج هذا المسح في تقرير نشرته عبر موقعها الإلكتروني باللغتين العربية والإنكليزية. وخلص المسح، الذي شمل المواقع المتضرّرة في الشهر الأول من العدوان، إلى أنّ 104 مواقع تراثية وأثرية دمّرها القصف الإسرائيلي، في الشهر الأول للحرب، سواء بشكل كلّي أو جزئي، أو طاولتها أضرار جانبية، وهو ما تطلّب تدخّلاً لإعادة ترميمها، من أصل 325 موقعاً موجودة في القطاع.

إقرأ أيضاً: حماس تنتصر… في مفاوضات الأسرى

أهمّ المواقع التي دُمّرت بشكل كلّيّ، حسب المسح: كنيسة جباليا البيزنطية (قصف مباشر)، والمسجد العمري في جباليا (قصف مباشر)، ومسجد الشيخ شعبان (قصف مباشر)، ومسجد الظفر دمري في الشجاعية (قصف مباشر)، ومقام الخضر في دير البلح (قصف مباشر)، وموقع البلاخية (ميناء الأنثيدون) في شمال غربي مدينة غزة القديمة (قصف مباشر)، ومسجد خليل الرحمن في منطقة عبسان في خان يونس (قصف مباشر)، ومركز المخطوطات والوثائق القديمة في مدينة غزة (قصف مباشر).
كذلك دمّر الاحتلال تدميراً شبه كامل كنيسة القديس برفيريوس في حيّ الزيتون بمدينة غزة، وهي أقدم كنيسة في المدينة، وذلك بعدما قصفها أيضاً بشكل مباشر، مرتكباً مجزرة جديدة في المدينة ضدّ النازحين في الكنيسة. ولم تنجُ الجامعة الإسلامية في غزة، إذ دمّر القصف الإسرائيلي مقرّها وقتل رئيسها البروفسور سفيان تايه في قصف استهدف منزله خارج مدينة غزة. ويعدّ البروفسور تايه بين أفضل 2 في المئة من الباحثين على مستوى العالم في مجال أبحاث الفيزياء والرياضيات التطبيقية.

 

غداً: محرقة الفلسطينيين لا أحد يمنعها

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…