حين تندلعُ الحروب، غالباً ما يُخفي غُبارُها أسبابَها الحقيقيّة، وينزلق العالم، عمداً أو جهلاً، إلى الاصطفاف خلف هذا الطرف أو ذاك من المتحاربين دون تمييز بين المُجرم والضحيّة. هذا ما ينطبقُ تماماً على غزّة اليوم، ذلك أنَّ أسباباً إنسانيّة وجيوسياسيّة ونفطيّة وسياسيّة تقفُ خلفَ الانفجار، أو مهّدت له، وستفيدُ منه لاحقاً، حيث يُصبحُ موتُ الأبرياء في حسابات كهذه مجرّد تفصيل يموت مع الزمن.
لنفهمَ ما حصل، دعونا نعُد قليلاً إلى الوراء:
– في 9 أيلول أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن من قمّة العشرين في نيودلهي خطّةَ بناء طريقٍ تجاريّ وسكك حديدية تنطلقُ من الهند، وتمرّ ببحر العرب والإمارات والسعوديّة، ثمّ تُعرّج على الأردن وإسرائيل لتصلَ إلى أوروبا. هذا مشروع ضخم يربط آسيا بأوروبا وإفريقيا. غابَ الرئيس الصيني للمرّة الأولى عن هذا التجمّع العالمي في الهند، وصدرت دراساتٌ كثيرة تقول إنّ المشروعَ المُعلن يهدف إلى تطويق المشروع الصيني المعروف باسم “الحزام والطريق”. وإقليميّاً، قيل إنّ مصرَ وتركيا تتضرّران منه، وإنّه يُسرّع عملية التطبيع العربية الإسرائيلية. عاد الشرق الأوسط ساحة تنافس وصراع دوليَّين بامتياز. لو راقبنا اليوم مواقف الصين منذ الشرارة الأولى للحرب، نجد أنّها كما روسيا تمايزت تماماً عن الغرب، فدعت إلى وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية، والعودة إلى جوهر الصراع، أي إقامة دولة فلسطينية مستقلّة. لا بل إنّ الصين تواصلت مع حركة حماس، وقرّرت إرسال مبعوثٍ خاصٍّ إلى المنطقة وسط زحمة المبعوثين الغربيّين الداعمين بشكل عام لإسرائيل.
– في 21 أيلول استقبل الرئيس الصيني شي جينبينغ نظيره السوري بشّار الأسد، وفاجأ العالم بإعلانه أنّ البلدَين اتّفقا على “إقامة شراكة استراتيجيّة”، وذلك بعدما كان الأسد في شهر آذار الماضي قد جدّد الاتفاق الاستراتيجيّ أيضاً مع حليفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خلال زيارته موسكو. هذه التحالفات الصينيّة الروسيّة التي تعزّزت بزيارة بوتين أخيراً لبكين والإعلان عن رفع التبادل التجاري الى نحو 200 مليار دولار، كانت قد أخذت بُعداً أوسع أيضاً مع إيران، ناهيك عن أنّ بكين كانت قد وسّعت تحالفَها مع أبرز دول الخليج وطهران. وهنا أيضاً نجد أنّ التنافس الدولي في ذروته في الشرق الأوسط بين المحاور، وهو ما قد يفتح الباب على كلّ الاحتمالات بينما النار تشتعلُ في غزّة وعدد من المناطق الإسرائيلية والحدود مع لُبنان. ليس مُستبعداً أبداً تحريك جبهات أخرى ضدّ الأميركيين في سوريا والعراق.
ثمّة فرصة كُبرى أمام العرب الآن، وسط هذا الصراع الدولي المحموم الذي عاد بقوّة إلى الشرق الأوسط. وهي فرصة نادرة يستطيعون عبرها الدفع باتجاه العودة إلى عقدِ مؤتمر دولي للسلام
– في 22 أيلول قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من على منبر الأمم المتحدة، وبوقاحته وصلفه المعهودَين، إنّ إسرائيل على أعتاب اتفاقِ سلامٍ تاريخيّ مع السعودية، ويجب عدم إعطاء الفلسطينيين حقّ الاعتراض على معاهدات السلام الجديدة مع الدول العربيّة، وعدمُ ربط هذه الاتفاقيات باتفاق سلامٍ مع الفلسطينيين، لأنّ هذه “فكرة خاطئة أدّت إلى فشل المبادرات السابقة من قبل إسرائيل”. شعر الفلسطينيون بأنّ الأمل يكاد ينتهي ويتلاشى بأيّ إمكانية لحلّ تفاوضي، وبأنّ إسرائيل تسعى ليس إلى فصل فلسطين عن التفاوض مع العرب فحسب، بل إلى اعتبار القضية الفلسطينيّة منتهية.
– كان لافتاً في الفترة عينها عددُ الغارات الإسرائيلية التي تكثّفت على سورية في الصيف وبعد زيارة الأسد للصين، وهي لم تقتصر على مواقع كانت إسرائيل تقول إنّها للحزب أو لعبور الصواريخ الإيرانيّة، وإنّما طالت الجيش السوريّ أيضاً. أعقبَت ذلك مجزرة الكليّة الحربيّة في حمص التي أدّت إلى مقتل عددٍ كبيرٍ من الضبّاط والعسكريّين والمدنيّين في حفل التخرّج في 5 تشرين الأول الجاري، أي قبل يومين فقط من بدء عملية طوفان الأقصى.
حقل الغاز في غزّة
– في مطلع شهر أيار الماضي، كشفت القناة الإسرائيلية 13 أنّ إسرائيل والسُلطة الفلسطينيّة بدأتا مفاوضاتٍ سرّية بشأنِ استخراج الغاز من حقل غزّة البحري، الذي يقع على بُعد 30 كيلومتراً من القطاع، وأنّ الولايات المتحدة الأميركيّة ضغطت بهذا الاتجاه، وذلك في خلال قمّتَي العقبة في الأردن وشرم الشيخ في مصر.
تجدُر الإشارة هُنا إلى أنّ هذا الحقل الذي تمّ اكتشافُه في عام 1999، يحتوي وفق التقديرات على نحو 30 مليار متر مُكعّب من الغاز الطبيعي، وهو ما قد يعود على السلطة الفلسطينيّة بأكثر من 800 مليون دولار سنويّاً.
يُذكر أنّ المُحادثات التي كانت قد سبقت ما كشفته القناة الإسرائيليّة، والتي جرت بين مصر والسلطة الفلسطينيّة وإسرائيل، فشلت بسبب اعتراض حركة حماس، وكان من المُفترض أن تتولّى شركة مصريّة هذا المشروع الذي تزامن مع اكتشافات أخرى على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط الجنوبيّة من فلسطين إلى تركيا فلُبنان وسوريا وقبرص.
إيران على الخطّ
– بعد مصالحتها مع سورية في عام 2022، أوفدت حركةُ حماس في 19 حزيران الماضي رئيسَ مكتبِها السياسيّ إسماعيل هنيّة على رأس وفدٍ منها، إلى طهران، وكان الأمين العامّ لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخّالة قد التقى في الفترة نفسها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. اندرج ذلك في سياق الاستعداد للمرحلة المُقبلة من الصراع وتعزيز المساعدات الإيرانيّة للفصائل والتأكيد على استراتيجية “وحدة الساحات”. وإذا كانت “حماس” قد استُقبلت بحفاوة من كبار المسؤولين، وبينهم المُرشد السيّد علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، فإنّ اللقاء الذي لفت إليه الأنظارَ أكثر، كان مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، العميد علي أكبر أحمديان، الذي قال إنّ المقاومة هي الاستراتيجية الأكثر فاعلية لإنهاء احتلال فلسطين المستمرّ منذ أكثر من 75 عاماً. فالعميد أحمديان ليس شخصيّة عاديّة في إيران، بل كان من أركان الحرس الثوري، وشغل منصب عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام ورئيس المركز الاستراتيجي للحرس الثوري منذ عام 2007 حتّى تولّيه منصبه الحالي، وهو من مدرسة الرئيس إبراهيم رئيسي الأكثر تشدّداً. وما إن بدأت الحرب حتّى استقبلت طهران مُجدّداً إسماعيل هنيّة، وراحت تتوعّد بتوسيع رقعة الحرب.
– قبل زيارة إيران، كان وفدٌ من “حماس” أيضاً بقيادة هنيّة نفسِه قد زار المملكة العربيّة السعودية في شهر نيسان الماضي، بذريعة تأدية مناسك العُمرة، وذلك للمرّة الأولى منذ عام 2015، في حين كانت الحركة الإسلاميّة تحاول الإيحاء بأنّها مع استمرار التهدئة في غزّة والتفاوض وفتح قنوات اتصال مع الجانب الإسرائيلي، وهذا ما شرحته الاستخبارات الإسرائيلية بعد “طوفان الأقصى” مُعتبرة أنّ كتائب عزّ الدين القسّام قد نجحت في التغرير بالاستخبارات وتمرير رسائل وهمية عن التهدئة.
– في مطلع شهر نيسان أيضاً من العام الجاري، زار إسماعيل هنيّة الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في بيروت، وأعلن الطرفان “جهوزية محور المقاومة وتعاون أطرافه في مواجهة كلّ هذه الأحداث والتطوّرات”. جاء ذلك في أعقاب اقتحام الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى واعتقالها نحو 350 فلسطينياً تحصّنوا فيه خلال شهر رمضان. ومن لبنان أعلن هنيّة أنّ المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي، وسرعان ما أطلقت كتائب القسّام صواريخَها على مناطق إسرائيلية. وهو ما حصل من لُبنان أيضاً موقَّعاً من الفصائل الفلسطينية. كانت كلّ المعلومات تُشير إلى تعزيز خطّة “وحدة الساحات” ورفع مستوى الجهوزية، وتولى نصرالله التنسيق بين أركان المحور الذي لم يقتصر على الإسلاميين.
انتفاضة الداخل
– منذ آذار من عام 2022، اعتقل الجيش الإسرائيلي أكثر من 2,000 فلسطيني في القدس والضفّة الغربيّة، وقتل 193 فلسطينيّاً، وذلك بتعليمات مُباشرة من الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، وهو ما دفع بعض قادة الجيش إلى تسريب تحذيرٍ لنتانياهو من استمرار الفوضى وعدم الدخول في مسار سياسيّ. كان ردّ الرجل الثاني في وزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش الذي كلّفه نتانياهو بالمستوطنات وبأكثر من 60 في المئة من الضفة، بأنّ القبضة الحديدية هي الحلّ، وهو كان قد نشر في عام 2017 خطّته المعروفة باسم “خطّة الحسم” التي تقضي ببثّ الفوضى، والدفع بالسُلطة الفلسطينيّة إلى الانهيار، وتشجيع الفلسطينيّين وإجبارِهم على الرحيل بالقوّة أو بإغراءات مادّيّة.
لو أضفنا إلى كلّ ما تقدّم أنّ الحكومة الإسرائيلية التي سبقت الحرب كانت الأخطر والأكثر عنصريّة لأسباب أيديولوجية ودينيّة في تاريخ إسرائيل، وأنّ نتانياهو كان على مشارف ما وُصف بالحرب الأهليّة بعد التظاهرات العارمة التي قامت ضدّه بعد تهم عديدة له بالفساد وبعد الخلافات بين المتديّنين والليبراليين، وبعد رفض الكثير من السياسيّين والمفكّرين والناس العاديّين إصرار الحكومة المتطرّفة على تعديلات تحدّ من سُلطة القضاء، لو أضفنا هذا إذاً إلى كلّ ما تقدّم نفهم أنّ الرجُل كان بحاجة إلى نقل الحرب إلى مكان آخر.
وهنا نذهب إلى الأسئلة الجوهرية:
– هل اختارت “حماس” بالتنسيق مع حلفائها في المحور القيام بطوفان الأقصى، وهو ما يعني أنّ ثمّة تطوّرات كُبرى ستلي ذلك على مستوى المحور، وخصوصاً من لبنان وربّما الجنوب السوري؟ أم حافظت على السرّيّة وفاجأت الجميع، ولذلك ما تزال ردود فعل إيران والحزب تحت السقف المقبول بغية إعداد الساحة الجنوبيّة لشيءٍ أكبر؟
– هل كانت نتائج عمليّتِها أكبر من المتوقّع، ولم تنتظر بالتالي أنّه على الرغم من أسرها أكثر من 150 إسرائيليّاً، بينهم عسكريون ومستوطنون ومدنيون، ستُدمّر إسرائيل غزّة وتبدأ عملية تهجير واسعة؟ أم شاءت كلّ هذه المعمعة الإقليمية والدوليّة للعودة إلى جوهر الصراع ولفرض نفسها محاوراً أساسيّاً في المرحلة المُقبلة على حساب ما بقي من سُلطة فلسطينيّة، بعدما شعرت بأنّ ثمّة تجاهلاً إسرائيليّاً وتهميشاً عربيّاً ودوليّاً لها؟
– هل انزلقت “حماس” إلى فخّ لم تنتظره، وكانت جوانبُه الأخرى مشغولة بدقّة لتهجير الفلسطينيين من غزّة؟ وهل يُراد إلغاءُ دورِها تسهيلاً لتمرير مشاريع أكبر في المنطقة؟
– هل ما يجري في فلسطين له علاقة بما كان يُحكى عن اقتراب ضربة إسرائيلية لإيران، حتّى لو أدّت إلى حرب أشمل، وهو ما يعني أنّ المحور يُخطّط لما هو أكثر خطورة عسكريّاً؟
– هل ما جرى حتّى الآن والدعم الغربي السريع والكبير لإسرائيل هو فقط دعمٌ لها، أم يندرج في إطار المشاريع الكُبرى للمنطقة من سياسية ونفطية، ويراد منه قطع الطريق على الصين وروسيا، فجبهة الشرق الأوسط تُخفّف من الضغط الغربي على روسيا، وتضع الصين وروسيا من جهة وأميركا من جهة ثانية في ساحةِ مواجهةٍ جديدة؟ هُنا بالضبط يبدو الخيط رفيعاً جدّاً بين غزّة وأوكرانيا.
كلّ هذا مُحتمل، لكنّ بين الاحتمالات شيئاً واحداً مؤكّداً، وهو أنّ الظُلم الإسرائيلي الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، والسجنَ الكبير الذي وُضع فيه أهل غزّة وسدّ باب الأمل أمام الشباب الفلسطيني من غزّة إلى الضفّة والقدس بشأن المستقبل، أمورٌ وضعتهم أمام خيارين: إمّا الموت في البحر أو القتال للعيش بكرامة. ولذلك يجب العودة إلى الأصل، وهو أن لا حلّ في المنطقة إلا بقيام دولة فلسطينية حقيقية وسيّدة ومستقلّة.
أمّا المؤكّد الثاني فهو أنّ أميركا التي أرسلت حاملتَي طائرات إلى المنطقة، ستجد نفسَها في فخٍّ جديدٍ وستكون الصين وروسيا جاهزتين لتوسيعِه قدر الإمكان بالتعاون مع أطراف المنطقة من لبنان حتّى سورية والعراق ما لم تعد إلى مبدأ التفاوض الدولي على معظم ملفّات المنطقة من غزّة إلى أوكرانيا فتايوان.
إقرأ أيضاً: زلزل غزّة: العرب والحسابات المشتركة المتقاطعة (2/2)
أمّا نتانياهو فهو بلا أدنى شكّ يعيش آخر مراحل حياته السياسة مهما بطش في هذه الحرب. لذلك الحرب تبدو طويلة ومعقّدة ومقبلة على مفاجآت، ذلك أنّ إسرائيل لا تستطيع خسارتها لأنّ في الخسارة ما يُهدّد كلّ وجودها، ولا المحور الذي تقوده إيران سيقبل بهزيمة المقاومة الفلسطينيّة، لإدراكه أنّ خسارة هذه الورقة الداخليّة تعني أنّ إسرائيل ستتفرّغ للخارج من لبنان حتّى إيران وستفعل ذلك بغطاء إقليميّ ودوليّ مُريحَين.
ثمّة فرصة كُبرى أمام العرب الآن، وسط هذا الصراع الدولي المحموم الذي عاد بقوّة إلى الشرق الأوسط. وهي فرصة نادرة يستطيعون عبرها الدفع باتجاه العودة إلى عقدِ مؤتمر دولي للسلام، تكون قضيّته الأولى إقامة دولة فلسطينية حقيقيّة ثمناً للسلام، وهنا يُمكن التعويل على التوازن الذي ستطرحه الصين وروسيا نظراً لعلاقتهما الجيّدة مع العرب وإسرائيل وإيران.
لمتابعة الكاتب على تويتر: samykleyb@