عن رواية “حماس” الغائبة والمغيّبة: أين نجدها أصلاً؟

مدة القراءة 7 د


تحوّل السؤال “هل تدين حماس؟” إلى شيء من كلاسيكيات الحرب في الإعلام الغربي، ولكأنّه القوس الإلكتروني الذي يعبر من تحته أيّ متحدّث مدافع عن وجهة النظر الفلسطينية، ليُفتح له باب الاعتراف بالأهليّة لقول الأهمّ الذي جاء لأجله، وفق القواعد المعيارية المقبولة في الغرب.

لقد واجهت هذه المعضلة الكثيرَ من المدافعين عن فلسطين في الإعلام العالمي، من الكوميديان باسم يوسف إلى سفير فلسطين في لندن حسام زملط، إلى زعيم حزب العمال السابق في بريطانيا جيرمي كوربون، إلى الرياضي المثير للجدل أندرو وايت. وقد اختار العديد منهم الإجابة بـ “نعم” لاختصار الوقت والعودة إلى تاريخ الصراع منذ وعد بلفور.

لكنّ هذه الـ “نعم” مكلفة جدّاً. ثمنها الإقرار بأنّ المقاتل الفلسطيني الذي يواجه الإسرائيلي في الميدان “إرهابي”، وأنّ الحرب تدور بين “دولة ديمقراطية تنتمي إلى العالم الحرّ”، و”منظمة إرهابية”. ولا يظلّ للجدل في مشروعية الحرب مكان، بل تبقى مساحة ضيّقة للجدل في الحدّ المقبول للقتل والتدمير، أو ما يعرف في القانون الدولي بـ “الردّ المتناسب” أو حدود “الضرر الجانبي”. هكذا ينضوي الإعلام والنخبة في منطق الإدارة الأميركية الذي ينأى بمشروعية الحرب الإسرائيلية عن أيّ تساؤل، ويبقى النقاش فقط في حدود “كيفية” تنفيذ إسرائيل لأهدافها العسكرية.

سؤال إدانة “حماس”، الذي اشتهر على لسان المذيع الإيرلندي بيرس مورغن لكنّه ليس حكراً عليه، يطرح إشكالاً عميقاً حول تمثيل الفلسطيني في المجال التداولي العالمي

غياب الفلسطيني بلسان إنكليزي

سؤال إدانة “حماس”، الذي اشتهر على لسان المذيع الإيرلندي بيرس مورغن لكنّه ليس حكراً عليه، يطرح إشكالاً عميقاً حول التمثيل الفلسطيني في المجال التداولي العالمي، ولا تحلّه المقولة المتهافتة إنّ “حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني”، أو إنّ “الحرب ليست على الشعب الفلسطيني بل على حماس”. فمهما كان رأي الفلسطينيين في “حماس” و”الجهاد”، لا يمكن لأحد إنكار حقيقة أنّ رجال التنظيمين يختزلان الوجود الفلسطيني في ساحة الحرب الآن، ولذلك فإنّ الفصل بين الصورة الرمزية لـ”حماس” والصورة الرمزية للفلسطيني غير ممكن الآن. وهذا ما يفسّر رفض مسؤولي حركة “فتح” إدانة “حماس” في ظلّ الحرب، لأنّها إدانة للمسلّح الفلسطيني في هذه الحرب الوجودية. وهذا يسري بالضرورة على البيان الختامي للقمّة العربية الإسلامية في الرياض، وأدبيات الوفد المنبثق منها الذي يجول على عواصم القرار سعياً إلى وقف إطلاق النار.

لكنّ مكمن الإشكال أنّ الإعلام العالمي حين يسعى إلى تأمين “الشكل” المتوازن في تمثيل طرفَي الحرب، يقدّم من جهة عصبة من المتحدّثين الرسميين باسم الجيش والحكومة في إسرائيل، هم على وجه أخصّ أربعة متحدّثين باللغة الإنكليزية يتناوبون يومياً على محطات التلفزة الرئيسية عالمياً. وفي المقلب الآخر تُمثَّل وجهة النظر الفلسطينية بأطبّاء أو ناشطين، وفي حالات أقلّ بمسؤولين حاليين أو سابقين في منظمة التحرير الفلسطينية. وينجم عن ذلك أنّ رواية الجيش الإسرائيلي تملأ الإعلام، فيما رواية الطرف الفلسطيني الذي يقاتل على الأرض غائبة.

اخترقت “حماس” الجدار الأمني الإسرائيلي في 7 أكتوبر، لكنّه لم يكن اختراقاً قابلاً للصرف في السياسة، ولو أنّها حاولت الاستدراك متأخّرة بإعلان قبولها “حلّ الدولتين”

غياب “رواية” 7 أكتوبر

لكنّ المشكلة هنا ليست فقط في تغييب الإعلام لرواية “حماس”، بل في عدم وجود رواية (إعلامية) متماسكة لما جرى في 7 أكتوبر (تشرين الأول). حصلت “حماس” على فرصٍ كثيرة لتقديم الرواية المضادّة، ربّما أبرزها مقابلة رئيس المكتب السياسي في الخارج خالد مشعل مع قناة “العربية”، لكنّه بدا مهتمّاً بالتوجّه إلى الجمهور العربي أكثر من تقديم سردية متكاملة لكلّ ما جرى تفسّر للعالم لماذا كان هجوم 7 أكتوبر؟ وما حقيقة “الفظائع” التي تتحدّث عنها إسرائيل؟ ولماذا حمل المقاتلون معهم الأطفال والنساء والعجّز إلى غزة؟ وما هو المبدأ البروتوكولي الحاكم لتصرّف “حماس” تجاه المدنيين الإسرائيليين؟ هل هو مبدأ شرعي فقط؟ أم هي تقيَّم اعتباراً للقانون الدولي الإنساني؟ وكيف توفّق بين رفض استهداف المدنيين ووجود هذا العدد من العجائز والأطفال لديها؟

يمكن تلمّس أثر هذا الغياب في تغطية الإعلام العالمي لصفقة تبادل الأسرى، إذ غطّى هذا الإعلام قصة واحدة، وكلّ ما عداها تفاصيل: أطفال وعجائز تطلقهم “حماس” من تحت الأنقاض. والتركيز الأكبر على الطفلة الإسرائيلية الأميركية أفيكيل، ذات السنوات الأربع.

احتفى الجمهور العربي في المقابل بإشارات الودّ بين مقاتلي “حماس” والأسرى الإسرائيليين المفرَج عنهم، بوصفها شهادة في الأهليّة الحضارية للمقاتل الفلسطيني، تدحض محاولة تشبيهه بـ”داعش” أو النازيين. لكنّها صورة تكون عديمة الأثر في الإعلام العالمي. من السهل أن يُعزى ذلك إلى لوثة الانحياز إلى كلّ ما هو إسرائيلي، فكيف إذا اجتمعت الهويّتان الإسرائيلية والأميركية في طفلة قتل “البرابرة” والديها وخطفوها إلى نفق في غزة! لا ريب في هذا الانحياز، لكن هناك ما هو أبعد منه: أين هي رواية “حماس” لقصة الأطفال والأمّهات المخطوفين؟ لا يبدو للمراقب أنّ ثمّة رواية “تناضل” للوصول إلى الرأي العام العالمي ويحجبها الإعلام. منذ 7 أكتوبر، ثمّة رواية واحدة لما جرى يقدّمها الإسرائيلي، وفيها ما فيها من تصوير “للفظائع”، من قطع للرؤوس وقتل للأطفال أمام أهاليهم وقتل الأهالي أمام أطفالهم وحرق الجثث.

انكشاف الكذب الإسرائيلي

تكشّف مع الوقت الكثير من الكذب الإسرائيلي من دون كثير فضلٍ للعمل الإعلامي العربي. فالإعلام العالمي تولّى بنفسه كشف الفبركة الإسرائيلية لوجود الدلائل على استخدام “مجمع الشفاء” كمركز قيادة عسكري لـ “حماس”. ومزاعم قطع رؤوس الأطفال التي ذكرها الرئيس الأميركي ثمّ تراجع عنها البيت الأبيض، سقطت من تلقاء نفسها. ثمّ انكشفت مبالغة إسرائيل في عدد القتلى من مستوطنيها عندما أقرّت بمراجعة العدد من 1,400 إلى 1,200 من دون تبرير مقنع، سوى قول المستشار الخاص لرئيس الحكومة الإسرائيلية مارك ريغيف إنّ المراجعة نجمت عن “اكتشاف”(!) أنّ مئتين من الجثث المحترقة لا تعود إلى إسرائيليين، بل لمقاتلين من “حماس”. كذلك كشف تقرير في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أنّ هيليكوبتر تابعة لشركة الإسرائيلية قصفت المستوطنين ومقاتلي حماس بلا تمييز في 7 أكتوبر، وهو ما أدّى إلى ارتفاع أعداد القتلى. وأتى إقرار ريغيف الصادم ليثبت أنّ الجثث المحترقة كانت من فعل إسرائيل.

يمكن النقاش مطوّلاً في مباعث التهافت في جوانب من الرواية الإسرائيلية، ولماذا ذهب متحدّثوها الرسميون إلى هذا الحدّ في الدعاية السوداء، لكنّ ذلك لا يغيّر المشهد الكبير للرواية الإسرائيلية السائدة، وحقيقة أنّ هناك غياباً لرواية مقابلة من الطرف الفلسطيني الذي يقاتل على الأرض.

إقرأ أيضاً: إعاقة إعمار غزّة: العقوبات الأوروبيّة جزء من خطّة التهجير؟

حماس ليست مؤهّلة

التبعات السياسية لذلك كبيرة. فـ “حماس” تقاتل على الأرض، وهي حقيقة سياسية لها تمثيلها الشعبي، لكن ليست طرفاً مؤهّلاً للحوار مع المجتمع الدولي، بحكم تصنيفها الإسرائيلي كـ “داعش فلسطين”، أو نظيراً للنازية التي رفض الحلفاء محاورتها. وهذا ما يعسّر مخاض ولادة الـ 1701 الفلسطيني. المأزق هنا أنّ المجتمع الدولي الذي يزعم أنّه رسول الديمقراطية والحكم الرشيد، ليس لديه استعداد لتأييد انتخابات ديمقراطية تفضي إلى تجديد شرعية التمثيل السياسي الوازن “للإرهابيين”، سواء بأقلية أم بأكثرية. ولذلك يطرح نتانياهو مشروع فرض “التغيير الثقافي” على الفلسطينيين، في المدارس والمساجد، ليعطي للاحتلال اسماً آخر، قبل أن يعطى الفلسطينيون الحقّ بالتعبير عن تطلّعاتهم.

اخترقت “حماس” الجدار الأمني الإسرائيلي في 7 أكتوبر، لكنّه لم يكن اختراقاً قابلاً للصرف في السياسة حتى الآن، ولو أنّها حاولت الاستدراك متأخّرة بإعلان قبولها “حلّ الدولتين”. فرسائل أبي عبيدة ما زالت عسيرة على الترجمة بالقدر الكافي لجعل القتال صالحاً للتوظيف في قلب المعادلة لمصلحة الحقّ الفلسطيني.

لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…