عن بايدن وروسيا والقوقاز وخارطة العالم (1/3): خلاف على تحديد العدو

مدة القراءة 10 د


لم تخفّف ولاية دونالد ترامب من وطأة العقوبات المالية والاقتصادية على روسيا التي لجأت إليها الولايات المتحدة الأميركية، فترة باراك أوباما، في أعقاب ضمّ موسكو، من جانب واحد، لشبه جزيرة القرم، بناء على طلب الأكثرية الروسية فيها. وتعزّزت مع رعاية موسكو للكيانين الانفصاليين “لوهانسك” و”دونتسك” في حوض الدونباس، في الجنوب الشرقي من أوكرانيا.

بالعكس، أضيفت رزم جديدة من العقوبات في ولاية ترامب، ولو أنّ الضغط الآتي من الكونغرس كان ينادي بعقوبات بعد أكثر، ولو أنّ الديموقراطيين في الكونغرس أمضوا ثلاث سنوات من أربع في مساعي عزل الرئيس، بتهمة “التخابر مع موسكو”، وتواطؤ مساعديه مع تدخل روسي تخريبي في الانتخابات الرئاسية 2016، ضدّ المرشحة عن الديموقراطيين هيلاري كلينتون.

 

حرج ترامب منذ قمة هلسنكي

بهذا المعنى، يمكن الإنصات للتوصيفات هنا وهناك التي تتحدّث عن خيبة موسكو من دونالد ترامب. الخيبة من أن تبقى أمورها عالقة على خلفية شروعها الاستراتيجي بضمّ شبه جزيرة القرم، الأساسية لها بالنسبة إلى سيطرتها على البحر الأسود. ولم تكن تصريحات ترامب في تموز 2017، غداة زيارته فرصوفيا، مشجّعة أبداً على هذا الصعيد، حين طالب موسكو بأن توقف زعزعة الاستقرار في أوكرانيا، وأن تنضمّ الى مصافّ “الأمم المسؤولة”. لكنّ ترامب جازف في المقابل بمدّ اليد لفلاديمير بوتين من خلال لقاء القمة بينهما في هلسنكي، تموز 2018، الذي كان محطّة مجهضة لتحسين العلاقات بين البلدين، نظراً لعاصفة الانتقادات الحادة التي تعرّض لها ترامب آنذاك، ومن عتاة الجمهوريين أنفسهم، حالُ جون ماكين (قبل أسابيع قليلة من وفاته) الذي استهجن ما اعتبره استسلامَ رئيس أميركي أمام “طاغية”.

يمكن الإنصات للتوصيفات هنا وهناك التي تتحدّث عن خيبة موسكو من دونالد ترامب. الخيبة من أن تبقى أمورها عالقة على خلفية شروعها الاستراتيجي بضمّ شبه جزيرة القرم، الأساسية لها بالنسبة إلى سيطرتها على البحر الأسود

عمّقت قمة هلسنكي 2018 “انشقاقاً جمهورياً” عن ترامب، انشقاقاً يأخذ عليه تحديداً الإضرار بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في علاقاتها مع غريمتها الأساسية على الكوكب، روسيا الاتحادية. نتيجة ذلك، كان كبح أيّ توجّه أكثر إيجابية لترامب تجاه روسيا، وازدياد خيبة موسكو منه، لأنه تحديداً ليس بمستطاعه أن يحمي ظهره في بيته الداخلي، من الذين على يمينه والذين على يساره، إذا ما أراد مدّ اليد إليها.

أدرك بوتين شيئاً فشيئاً أنّ الانقسام الحاد في الداخل الأميركي حول ترامب يحول دون تحرّك الأخير باتجاه تطبيعي ممنهج حيال موسكو. وهنا بالمستطاع المقابلة بين النظرتين الروسية والصينية: روسيا “على قلبها مثل العسل” انقسام الأميركيين فيما بينهم، لكن الانقسام الحاد حول ترامب مع بقائه رئيساً يعدم بالنسبة لها أيّ أفق لتحسين، أو حتى وقف، التدهور المتواصل للعلاقات. في حين أنّ الصين، وعلى الرغم من الحرب التجارية الضارية التي شنّها ترامب ضدّها، وعلى الرغم من أنّه هجاها بشكل حاد واتهامي، في أعقاب تفشّي جائحة كورونا، إلا أنّ ميول ترامب للانعزال الأميركي عن “العالم القديم”، وعدم إعارته بالاً للترويج الكوني للديموقراطية، فضلاً عن الانقسامات الحادة التي يثيرها داخل بلاده، هي بالمحصّلة أمور تريحها.

بيد أنّ خسارة ترامب، رغم “مزاياه” هذه بالنسبة إلى الصين، إلا أنها تفتح الباب لفرص تهدوية للعلاقات بينها وبين أميركا. وليست الحال كذلك على جبهة موسكو التي تتوقع أصلاً أن تتدهور العلاقات حتى لو جُدِّدَ لترامب، فكيف الحال إذا كان الفائز هو جو بايدن الذي خاض الانتخابات، بالتهديف على روسيا باعتبارها “التهديد الأكثر خطورة على الولايات المتحدة في الوقت الراهن”، هذا بعد أن أمضى هو وسائر أقطاب الحزب الديموقراطي، في محاولات عزل ترامب بتهمة التواطؤ مع العبث الاستخباري الروسي بالرئاسيات الأميركية السابقة.

 

خلاف على تحديد العدو على خارطة العالم

الاختلاف الاستراتيجي في النظرة بين ترامب وبين بايدن غير متعلّق لا بالشرق الأوسط، ولا بإيران، ولا بالوضع في شبه القارة الهندية. إنما هو اختلاف بين مدرسة لا تزال تعتبر أنّ الخصم الأساسي، على الصعيد الجيوسياسي هو روسيا، وأنه ما زال من المبكر الحديث عن تناقض رئيسي مع الصين، وبين مدرسة تجنح بخلاف ذلك إلى الإعلاء من خطورة الصين. 

ينبثق هذا الاختلاف من تراث الجيوپوليتيك / الجغراسية نفسها كتقليد نظري.

لقد قام هذا التقليد في العلم السياسي على مرتكزين، الصراع بين إمبراطورية البحر وإمبراطورية البرّ، سبيلاً لفهم النزاعات والتحدّيات سواء على الصعيد الأوروبي أو على الصعيد الكوكبي المأخوذ جملة، مع أفضلية معطاة لإمبراطورية البحر على إمبراطورية البر في هذا الصراع على الأمد الأطول، خصوصاً في أعمال الأميرال الأميركي ألفريد ماهان، لا سيما “تأثير قوة البحر على التاريخ” (1890). وقد انطلق ماهان من هيمنة إمبراطورية البحر البريطانية على القرن التاسع عشر، ليستشرف هيمنة إمبراطورية البحر الأميركية في القرن الذي يلي. بالنسبة إلى ماهان، من يسيطر على البحر، حرباً وتجارة، يهيمن على العالم.

أما المنشأ الثاني للجغراسية، فتمثّل بالعكس من ذلك في الإعلاء من قيمة الصراع على البرّ، وبالذات على الجزيرة العالمية المشكّلة من المتصل الترابي بين آسيا وأوروبا (بالجغرافيا البحتة أوروبا هي شبه جزيرتين، إسكاندينافيا، وأوروبا القارية، وفي آسيا، مثلهما مثل شبه القارة الهندية أو شبه الجزيرة العربية) وأفريقيا (قبل حفر قناة السويس). من هنا، خرج هالفورد ماكيندر صاحب “المحيط الجغرافي للتاريخ” (1904) ليعلن بأنه ليس من يسيطر على لعبة البحر يهيمن على العالم، بل من يمسك بالهارتلاند، قلب العالم القديم، قلب الجزيرة – العالم، أي أساساً هذا المتصل الترابي حين نقصي منه أشباه الجزر التي تشكّل زعانف له. من يسيطر على قلب جزيرة العالم، يسيطر عليها، وبالنتيجة على العالم.

الاختلاف الاستراتيجي في النظرة بين ترامب وبين بايدن غير متعلّق لا بالشرق الأوسط، ولا بإيران، ولا بالوضع في شبه القارة الهندية. إنما هو اختلاف بين مدرسة لا تزال تعتبر أنّ الخصم الأساسي، على الصعيد الجيوسياسي هو روسيا، وأنه ما زال من المبكر الحديث عن تناقض رئيسي مع الصين، وبين مدرسة تجنح بخلاف ذلك إلى الإعلاء من خطورة الصين

هذه النظرة “الماكيندرية” حكمت فرعاً أساسياً من النظرة الجيوبوليتيكية الغربية، بما أنّ قلب العالم القديم هذا تسيطر عليه روسيا بمعظمه. بمعظمه وليس كلّه، إذا كانت السيطرة الروسية غير مريحة أو غير متاحة على أوكرانيا وآسيا الوسطى وحوض قزوين والقوقاز. حرمان روسيا من السيطرة على قلب الجزيرة العالم يكون إذاً بمنعها من السيطرة التامة على هذه الأقاليم.

بيد أنّ النظرة الماكيندرية الصرف تراجعت في القرن العشرين، لصالح نظرة أخرى تعتبر مع نيكولاس سپايكمان أنّه حتى ولو سيطرت إمبراطورية البر الروسية على قلب الجزيرة العالم، فهي لن يكون بمستطاعها الهيمنة على هذا المتصل الترابي ككل، إلا إذا تمدّدت سيطرتها خارج الهارتلاند هذا باتجاه الزعانف، أي باتجاه أشباه القارات والمناطق المطلّة على البحار الدافئة. أما إذا لم يكن بمستطاع روسيا التمدّد إلى هذه المناطق المحيطة بالهارتلاند، والتي سيصطلح التقليد الجيوبوليتيكي على تسميتها الريملاند، أي الهلال المحيط بقلب الجزيرة – العالم، والمشكّل من شبه الجزيرة الكورية والصين والهند الصينية وشبه القارة الهندية والهضبة الإيرانية وشبه الجزيرة العربية والمشرق العربي والأناضول ومعظم أوروبا، فانها ستسجن نفسها بنفسها.

لقد هيمنت النظرة السپايكمانية (نظرية نيكولاس سبايكمان الواردة أعلاه) هذه على الحرب الباردة، حيث صار المبتغى أميركياً “احتواء” الاتحاد السوفياتي، أي منعه من التمدّد أكثر فأكثر بمناطق الريملاند، الهلال المحيط بالهارتلاند، بعد أن كاد أن يكون ممسكاً تماماً بالهارتلاند كله من سيبيريا حتى أوروبا الوسطى ومعظم حوض الدانوب. من هنا، كانت الحرب الباردة سلسلة حروب ساخنة في مناطق الريملاند، بدءاً من الحرب الكورية وصولاً إلى فيتنام وحروب الهند الصينية الأخرى وترابطاً مع النزاعات والحروب في جنوب آسيا والشرق الأوسط. هذا قبل أن تخاض الجولة الأخيرة ما قبل انتهاء الحرب الباردة في الرقعة التي يلتقي فيها الهارتلاند بالريملاند: أفغانستان.

أما بعد نهاية الحرب الباردة، فتراجعت النظرة السپايكمانية لصالح رجعة النظرة الماكيندرية الكلاسيكية: وجوب عدم ترك قالب الجزيرة – العالم من حصّة روسيا. عنى ذلك بشكل أساسي دعم تمدّد حلف شمال الأطلسي أكثر فأكثر باتجاه مركز العالم، أو الهارتلاند. وهنا محكّ أساسي تمثّل بإمكان مدّ الحلف الأطلسي باتجاه أوكرانيا، بل وتوغّله في القوقاز، من خلال جيورجيا.

 

الجيوبوليتيكا في روسيا اليوم
والحرب الباردة انتهت بانتصارين. أحدهما لم يكن لدى روسيا مشكلة فعلية معه كانتصار، وهو الانتصار الأيديولوجي على الشيوعية السوفياتية. بالعكس، فهي بالنتيجة من أطاح بهذه الشيوعية، أو بالأحرى قيادة الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي هي التي أطاحت بالشيوعية. ولا يزال معظم من يحكم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ومن يمسك بالمفاصل، من مدرسة الحزب أو الشبيبة الملازمة له، الكومسمول، شأن فلاديمير پوتين نفسه، أو وريثاً بيولوجياً لقيادي من هذا الحزب، شأن إلهام ابن حيدر عالييف في أذربيجان.

إقرأ أيضاً: أرمينيا وأذربيجان (2): نظام السيّدة “السيليكونية” الأولى.. نائبة الرئيس

أما الانتصار الثاني، فكان الانتصار الجيوبوليتيكي لإمبراطورية البحر على إمبراطورية البرّ، نتيجة لمحاصرة تمدّدات الأخيرة في الريملاند، ثم جرّها الى استنزاف نفسها في نقطة الوصل بين الريملاند والهارتلاند، أفغانستان. وهنا بالذات مثّل انهيار الاتحاد السوفياتي “كارثة جيوبوليتيكية” بالنسبة إلى روسيا، كارثة تحرمها المشاركة في النصر على الشيوعية التي صنعته بأيديها، و”بكل بساطة” بعدم اقتناع القيادات الشيوعية في الاتحاد السوفياتي بشيوعيتهم منذ سبعينيات القرن الماضي. هذا أوجد حالة تحسّر على المجد السوفياتي، مقروناً بالتحسّر على أمجاد روسيا القيصرية. لعب هذا دوراً في تقويض المسارات الديموقراطية. لكن الأخطر من هذا أنه دفع المؤسسة الحاكمة الروسية أكثر فأكثر إلى اعتناق أيديولوجية جديدة: الجيوبوليتيكا نفسها، الجيوبوليتيكا الصرف. بعد أن كانت هناك اعتبارات أيديولوجية تلحظ درجة تكيّفها مع المحدّدات الجيوبوليتيكية، جرى الانتقال إلى تخييط أيديولوجية جديدة من الجيوبوليتيكا نفسها.
لا يعني هذا أبداً أنّ الروس وقعوا في الوهم. بالعكس. النظرة إلى روسيا كعدو جيوبوليتيكي حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سيطرت على الإدارات الأميركية المتعاقبة. ليس لأن روسيا تشكّل هذا الخطر الوجودي فعلاً، بل لأن قيادة الولايات المتحدة للعالم مرتبطة باستدامة هذا الخطر، حتى وروسيا في موقع الضعف. يسمح لها إبقاء روسيا وجهة الخطر الأساسي بالمحافظة على الأحلاف الرسمية وغير الرسمية التي تقودها في أوروبا كما في آسيا. مع كلّ الأهمية المعطاة لصعود الصين، إلا أنّ النظرة الجيوبوليتيكية الغالبة أميركياً وغربياً لا تزال روسوفوبية أكثر منها صينوفوبية.

 

في الحلقة الثانية غداً: عن شلل العالم منذ 2014

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…