عن القهر في بيوتنا: يسقط نظام الكفالة

مدة القراءة 7 د


بعد اندلاع ثورة 17 تشرين، نُظّمت مسيرة نسوية، من المتحف إلى ساحة الشهداء، مشينا ساعتين في بيروت. لا يمكن لأيّ مشارك في المسيرة ألاّ يلحظ أنّه على كلّ بلكون، في كلّ البنايات التي مررنا أمامها تقريباً، كان هناك عاملة منزلية أجنبية تنظر إلينا. ولأنّ الحقوق الإنسانية لا تتجزّأ تردّد شعار: “من بيروت تحية / للعاملة المنزلية”.

يُعتبر نظام الكفالة عبودية مقنّعة، وهذا أقلّ ما يقال، كونه مخالفاً لكلّ حقوق الإنسان، بحيث تخضع العاملة لمشيئة مشغّلها، تُعاقب بالضرب أحياناً، ويصعب اللجوء إلى سبل المحاسبة. تُمنع من الخروج من المنزل إلا بإذن صاحبها، وتُصادر كل أوراقها الثبوتية، وتُحرم من الإجازات الأسبوعية، وتعمل أكثر من الساعات المسموح بها يومياً.

يعرّض نظام الكفالة العاملة المنزلية لإمكانية استغلالها من خلال إجبارها على العمل في أكثر من مكان ضمن العائلة نفسها، فتتحوّل إلى آلة تنظيف لا تهدأ من الصباح حتّى المساء، وتقوم بدور الأمّ والمربيّة، فضلاً عن أنها مُجبرة على طاعة الأوامر في أيّ وقت،، أو تهديد بالترحيل، أو تهديد بإعادتها إلى مالك “مكتب الخدم”، الذي يُشبه “الوحش” الذي كانوا يحاولون تخويفنا به في صغرنا كي نرضخ للأوامر.

ها هو الوحش إذاً: حقيقةٌ موجودةٌ، ليس خيالاً، بل يستمدّ شرعيّته التامة والمطلقة من القوانين  اللبنانية التي تفتقر إلى ما يمكن أن يردع التعديّات بقوانين محاسبة.

– “كيف شغلو؟ شو عم يجيب هالإيام؟

– من نيجيريا.

– إيه، وكيف هنّي؟ مناح؟

– يعني ماشي حالهن، ما هلق ممنوع الأثيوبيات…”. كان هذا حديث عرضي داخل صالون نسائي في بيروت.

للوهلة الأولى اعتقدتُ أنّ صاحبة الصالون تسأل زبونتها عن “بضاعة”، ليتبيّن أنّ زوج الأخيرة يملك مكتب استقدام عاملات أجنبيات أو “خدم” كما يحب لبنانيون كثيرون مناداتهم.

“تتذكّري يلّي جبتها من عند فلانة؟ وصلت لعندي وقال: أنا ما بدّي اشتغل عندك. وشو بدي أعمل؟ دافعة عليها مصاري. أخدتلو ايّاها ضربها قتلة، رجعت متل الشاطرة اشتغلت”.

طبعاً، إذ إنّ قرار العاملة باختيارها مكان لعملها غير وارد، وعقوبته “قتلة” في المكتب الذي استقدمها.

– “بعدا يلي عندك ما بتحكي عربي؟ هيدي مشكلة.

– ما ليكي تخانقنا وعيّطت عليها، بس طلع معها حقّ.

– ليش معها حقّ؟

– لأنو ما في حدا بالبيت يحكيها. من وين بدها تتعلّم؟ بعدين إجت عمرها 14 سنة.

-إيه، بتذكر بس شفتها قلت هيدي ضعيفة كيف بدها تقوم بالبيت.

– لا والله منيحة…”.

تخيّلوا أنّ قوانيننا اللبنانية تسمح لنا باستقدام طفلة تبلغ من العمر 14 عاماً، لتدير منزلاً وتقدم الخدمات لعائلة لا تعرف عنها شيئاً.

استمرّ نقاش العاملات المنزليات، ولو أنّه أقرب إلى نقاش عن تجارة “العبيد” وسوقهم قبل قرون من الزمن.

وصل الحديث في نهايته إلى الأزمة اللبنانية، وأزمة الدفع بالدولار، كون العاملات يرسلن أموالهنّ إلى الخارج لإعالة عائلاتهنّ.

فعلياً، ليس الأمر بالمقلق. فرواتب العاملات لا تتخطّى المئتين وخمسين دولاراً، في أحسن الأحوال، لكلّ واحدة، كلّ شهر.

 

حالات الانتحار

يصعب على العاملة المنزلية أن تتقدّم بشكوى إذا تعرّضت للعنف أو للمعاملة السيئة.

لمن تقدّم الشكوى؟ وكيف؟ ومن يضمن لها حقّها؟

بعد كلّ الظروف الصعبة التي تواجهها العاملة المنزلية في لبنان، التي تبدأ من مطار بيروت ولا تنتهي في المنزل، تقرّر بعض العاملات اللجوء إلى الانتحار عندما يصبح الموت خيارهنّ الأوحد للهرب من معاناتهنّ اليومية.

ويشير تقرير في منظمة “هيومن رايتس ووتش”، صادر عام 2008، أن أكثر من عاملة أجنبية تموت أسبوعياً في الخدمة المنزلية، وأغلبهنّ يقضين انتحاراً، أو يقعن من المباني في محاولة هروبهنّ، أو جرّاء حوادث عمل تشكّل خطراً عليهنّ.

في شهر كانون الثاني 2020 ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بخبر انتحار عاملتين، واحدة منهنّ قفزت من شقة مشغّليها في سليم سلام، وعاملة أخرى شنقت نفسها في برج المرّ.

وأصدرت وزارة العمل هذا البيان: “فور معرفة الوزارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي بانتحار إحدى العاملات في الخدمة المنزلية في محلة سليم سلام في بيروت، تحرّك فريق من الوزارة بناء لتوجيهات وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال كميل أبو سليمان للقيام بالتحقيقات اللازمة واتخاذ الإجراءات المتاحة من قبل الوزارة في حال ثبوت مسؤولية ربّ العمل مباشرة أو غير مباشرة بانتحارها أو سوء معاملتها، ومن هذه الإجراءات إدراجه وأفراد عائلته على لائحة الحظر في الوزارة ما يعني منعهم من استخدام أيّ عاملة جديدة في الخدمة المنزلية”.

تتابع صفحة “This is Lebanon” الانتهاكات التي تحصل مع العاملات المنزليات في لبنان، وقد نشرت مؤخراً صورة لامرأة لبنانية تعرض عاملتها “للبيع” حرفياً، بسبب الظروف الصعبة.

[PHOTO]

وقد أصدرت الوزرة أيضاً توضيحاً بأنّها “تتابع قيام بعض المستخدِمين بنشر إعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي يعرضون فيها العاملات في الخدمة المنزلية للتنازل عبر استخدام عبارات تنتهك كرامة العاملات وأبسط حقوق الإنسان وتمثّل “عبودية حديثة”، محذّرة من أنّ “الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها البلاد لا تبرّر أبداً التعامل بطريقة غير إنسانية مع العمال أو انتهاك حقوقهم، وتذكّر بأنّها تعمل على إلغاء نظام الكفالة المعمول به”.

لا يضمن أحد للعاملة المنزلية في هذه الظروف الصعبة أن تقبض أموالها بالدولار. إذ إنّ تسليمها أموالها بالليرة اللبنانية وتكبّدها فرق تحويلها إلى الدولار يؤدّي إلى تكبّدها خسائر كبيرة. والراتب، إذا كان 250 دولاراً، وتسلّمته بالليرة اللبنانية على سعر صرف الـ 2000 ليرة، تكون قد خسرت 62$ في عملية تحويله أي 24.8 % من قيمته. وهذه نسبة كبيرة. إذ إنّ الدولار الواحد يُحدث فرقاً كبيراً بالنسبة إليها.

فإذا كانت العائلة اللبنانية عاجزة مادياً عن تحمّل خسارة كهذه، لماذا هذا الإصرار على وجود العاملات المنزليات؟ وهنا يمكن استثناء من لديهم ظروف تجبرهم على اللجوء إلى هذا الحلّ الوحيد.

في كتابه “الطبقات الإجتماعية والسلطة السياسية في لبنان”، ينقل الدكتور فواز طرابلسي عن سمير خلف فكرة “الصرع الطبقي”، وذلك في إطار حديثه عن تحوّلات البنية الاجتماعية في لبنان. ويدرس “الفورة غير المسبوقة في نزعة الاستهلاك الشعبي، خصوصاً في سماتها المؤسلبة والفاقعة والماتعة”، ويعيدها إلى أسباب تتعلق بالقلق والاضطرابات التي سبّبتها الحرب. ويلاحظ أيضاً أن “لا شيء أفلت من عملية الاستهلاك… حيث المستهلك اللبناني في حالة سعي استهلاكي دائم ولا من إشباع”.

يتطرّق الدكتور طرابلسي إلى مفاصل الحياة اللبنانية بكل جوانبها، من “المولات” إلى السيارات وحياة الليل والجراحة التجميلية، ويبيّن كيف أنّ السياسات المصرفية ساهمت في تنامي بعض الظواهر من خلال القروض المسهّلة. إذ وصل الأمر ببعض البنوك إلى تقديم قروض من أجل إجراء عمليات تجميل.

في الخلاصة يعتبر أنّ “الطبقات الوسطى تعيش فوق مستوى قدراتها… وتتكّل بنحو متزايد على المصارف أو عائدات الأقارب والمغتربين العاملين في الخارج”. ويربط بين “أيديولوجيا الاستهلاك لفئات متزايدة من اللبنانيين بالنظام من خلال ما يبثه من قيم مادية”، وبين “رغبة التمثل بالطبقات العليا لتحقيق سمات الرقي الاجتماعيّ”.

 ظاهرة استقدام العاملات الأجنبيات في لبنان وفي العالم العربي باتت فاقعة. ونظراً لغياب نظام الكفالة في الدول المتقدمة نادراً ما تتعرَض العاملات في الخدمة المنزلية للظروف الصعبة التي تواجهها العاملة المنضوية تحت هذا النظام.

في فرنسا مثلاً يعملن بدوام محدّد عن طريق مكتب تنظيفات. وبحسب “المعهد الوطني للإحصائيات والدراسات الاقتصادية”، تتقاضى العاملات في الخدمة المنزلية حوالي 1200 يورو في الشهر، أي تقريباً ما يعادل 8 يورو في الساعة. وهذا يتبع الحدّ الأدنى للدخل في فرنسا.

يتعاطى البعض في لبنان مع العاملة المنزلية على أنّها “إكسسوار” يعزّز من مكانتهم الاجتماعية، كالسيارة الفخمة، أو المنزل، وغيرها من المظاهر الاستهلاكية. وإلا فما مبرّر تعاطي البعض معها بأسلوب ظالم فيه نوع من الاستعباد يخالف حاجتهم إليها للمساعدة في الأعمال المنزلية. ويحدث ذلك بمساعدة من الدولة وقوانينها وسياساتها المصرفية. والنتيجة: مئات العاملات تنتهك حقوقهنّ.

وحتّى تحقيق العدالة، اليوم وكلّ يوم، ما قبل 17 تشرين وما بعده: يسقط نظام الكفالة.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…

أمن الحزب: ما هو الخرق الذي سهّل مقتل العاروري؟ (2/1)

سلسلة من الاغتيالات طالت قيادات من الحزب وحركة حماس منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على وجه التحديد توّجت باغتيالين كبيرين. الأوّل اغتيال نائب رئيس…

النزوح السوريّ (3): النظام لا يريد أبناءه

12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد…