تعترضك صعوبة جديّة إذا ما تطرقت إلى 14 آذار 2005 اليوم. هذا الحدث الجماهيري التأسيسي الذي ظلّت تحييه الناس في الساحات ستة مرات من بعده يباعدنا عنه الزمن الآن حدّ المجافاة.
كنّا في 14 آذار 2005. كنتُ في 14 آذار 2005. كان الحدث غير مألوف، غير مألوف أبدا. مفاجىء بضخامة الحشد حّتى بالنسبة إلى للداعين إليه… ومقلقٌ لهم أكثر من كلّ ما أثاره من حنق وضيق في صفوف الأخصام.
كنّا وكنتُ… لكنّك تشعر اليوم بالحاجة إلى إعادة تسويغ ذلك الموقع اليوم، كي لا تدثره الطبقات المتراكمة من النقد الذاتي ومن التباعد الزمني والنفسي.
إقرأ أيضاً: 14 آذار وثمن دفعته “النهار”
كان 14 آذار 2005 حدثا مقلقاً للجميع. ولمن دعا إليه ولمن شارك فيه. لكلّ واحد منّا. بدا كما لو أنّ الشعب كلّه يتحوّل إلى جسد حيّ جماعي هادر بالحرية إنّما محتوم أن يفقد نفسه ما إن يباشر الناس في العودة أدراجهم من الساحات. بدا كالطاقة الجمّة التي يحضر كابوسها معها من أن تذهب هباء. كالذروة الحاصلة قبل أوانها، ومن بعد الذروة انحدار. صارت كلّ أيامنا من بعدها محاولة ترميم، استعادة، استنهاض، هذا المشهد، وفي كل مرّة كنّا نحاول استجلابه من ظرفه، والمكابرة على مفارقاته وحدوده وعناصر العطب الكامنة فيه منذ البدء.
كنّا نحكم عليه بالنضوب بعد حين كمصدر إلهام، حتّى انتقل قسم من الناس من منازعة قيادات “14 آذار الجبهوية” عليه إلى رميه هو أيضاً لهم، والتبرّؤ منه.. ومثلما وجدنا بعيد الحرب الأهلية فئات تصطنع لنفسها رأسمالاً رمزياً من كونها لم تشارك بالحرب، كذلك اليوم هناك من يصطنع لنفسه رأسمالاً رمزياً بأنّه ما كان في 8 ولا 14.
كذلك قسم كبير من شباب انتفاضة ١٧ تشرين كان عمره من ثلاث إلى عشر سنوات في ذلك الوقت. سيقولون لك إنّ 14 آذار 2005 كانت تحشيد قوى طائفية بين بعضها البعض، وإنّ 8 و14 خربتا البلد، وإنّ 17 تشرين هي علي النقيض من 14 آذار. فالأخيرة مبايعة للوراثة السياسية وكبار الأغنياء حين يتولون السياسة ولأمراء الحرب حين “يولدون بخطاب جديد”. فيما 17 تشرين نقيض لكلّ هذا.
لم يعد ذلك اليوم الأكثر جماهيرية في تاريخ لبنان شعبياً اليوم. صار تسويغه والتذكير بمحامده “وجعة راس”. هذا في وقت تروج فيه أنماط مختلفة من الإحباطية مجدداً لتطال ألق 17 تشرين نفسه.
في 14 آذار 2005 لم يكن سعد الحريري قد ظهر سياسياً بعد، ولا عاد ميشال عون من منفاه، ولا خرج سمير جعجع من سجنه. كان يوم التفاوت الرهيب بين مستوييه الجماهيري والخطابي. يوم حرّكته خمسة محاور: طلب إنهاء الوصاية السورية وإجلاء جيشها. وطلب الحقيقة لقضية اغتيال رفيق الحريري، وكانت سبحة الاغتيالات التالية، بدءاً من سمير قصير وجورج حاوي لم تبدأ بعد. وطلب تفكيك ومحاسبة جنرالات النظام الأمني الموالي للوصاية، ولأجل هذا رفعت صورهم في الساحة. والإحتقان من التمديد لاميل لحود، من دون أن يترجم ذلك في طلب على مستوى الحدث الجماهيري، بسبب الفيتوات على إسقاط رئيس الجمهورية في الشارع، بدءاً من البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وقتها. والحاجة، خامساً، للرّد على منطق “لبنان ليس أوكرانيا ولا جيورجيا” الذي أشهر بوجه فعاليات “انتفاضة الاستقلال” يوم 8 آذار. وإن كان الطاغي على مناخ الاستقلاليين وقتها أنّهم عليهم طمأنة “حزب الله” على فترة ما بعد الجلاء السوري. إذ لم يفهم قسم كبير منهم وقتها أنّ الحزب ستتحرّر طاقته التغلبية على الصعيد الداخلي بعد رحيل الوصي، وسيعمد إلى وراثة دور الوصيّ. فالتعبير عن هاجس كهذا عام 2005 كان يبدو أشبه باستعادة بعض من الدعاية المناوئة للإنسحاب السوري وقتها.
لا 14 آذار 2005 و17 تشرين 2019 نقيضان، ولا هما من جوهر واحد. الأحرى القول إنّ التناقض بينهما فعلي، وحقيقي، وكبير، وإنّ كلّ واحد منهما يمتلك ما ليس عند الحدث الآخر. 14 آذار انتفاضة ضدّ جريمة، ضدّ عقل اجرامي ظلّ يتسلسل من اغتيال للآخر، ومن محاولة اغتيال مروان حمادة ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى اغتيال محمد شطح. تسع سنوات من الاغتيالات المتسلسلة. من بعد خمسة عشر عاماً من الوصاية السورية التي نشهد اليوم مسعىً رهيباً لتبرئتها من كلّ مسؤولية في تخريب اقتصاد لبنان بعد الحرب – ولو أنّ هذه المسؤولية لا تختزل بها – إلاّ أنّها هي من فرض بالدرجة الأولى “تقسيم العمل” في الداخل اللبناني، بين نيوليبرالية “ممنوعة عن الخصخصة” ما دامت المحاصصة تقتضي تقاسم وإعادة تقاسم الوظائف العامة والمناقصات حول الأشغال العام، ونيوليبرالية لن تفهم بربطها فقط بالاستعداد إلى التسوية العربية الاسرائيلية، بل قبل كل شيء ربطاً بالوظيفة الاقتصادية المالية التي أمّنتها الحلقة اللبنانية بالنسبة إلى النظام السوري.
فالنظام السوري احتاجت وصايته في لبنان إلى هذا النوع من تقسيم العمل، بين مقاومة تبقى خارج الحكومات المتعاقبة، وخارج المحاصصة إلى حدّ كبير، إنّما تتشكل في نفس الوقت كجسم موازٍ على كافة الصعد، وبين نيوليبرالية حريرية تتمسك بمعيار النموّ فوق غيره من المعايير للدفاع عن نظرتها.
في 14 آذار 2005 كان هناك نوع من ربط بين الحاجة إلى القطيعة مع زمن الوصاية وبين الحاجة إلى البحث عن توازنات داخلية جديدة
وتظلّ نكبة أخصام النيوليبيرالية الحريرية يومها بأنّهم إذ يسائلونها، ومعهم حقّ في كلّ ذلك، بمعايير الانتاجية، والتوازنية بين قطاعات الاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، فإنّهم يجحدون تماماً بمعيار النمو. معيار النمو لا يمكن أن يكتفي بذاته لبناء اقتصاد متعافٍ، لكنّ الجحود به والاستبشار خيراً بالركود والكساد بعدُ اسوأ.
لأجل هذا، سيمضي وقت قبل ان يكون بالمستطاع استلهام محطات مختلفة وغير مترادفة كلها مع بعضها البعض في تاريخنا المعاصر، لإنتاج رؤية جديدة تفهم جيداً أنّ التوازن ليس نقيض التجذر في السياسة، بل من لزوم التجذّر الصحي، والمنهجي، والقادر على الفعل. التوازن بين الحاجة إلى النموّ، ويين الحاجة إلى تغليب الاقتصاد الفعلي على الاقتصاد الوهمي، والرأسمال المتحرك على الرأسمال الخامل. التوازن بين العددية والتعددية لفهم معنى الديموقراطية، بدلاً من كلّ نوبات الميثاقية الجاحدة بالعدد، والانصهارية غير القادرة على فهم الاختلافات بين الناس، وأنّ الاختلافات لا تلغي بعضها بعضاً، لا الاختلاف الديني يلغي الاختلاف في الموقع الاقتصادي ولا هذا وذاك يكفيان فقط لتحديد أصل وفصل كل فرد منّا.
في 14 آذار 2005 كان هناك نوع من ربط بين الحاجة إلى القطيعة مع زمن الوصاية وبين الحاجة إلى البحث عن توازنات داخلية جديدة. لكنها بقيت توازنات مبتورة. بدلا من أن تفتح جماهيرية الحدث المجال لاصطباغ حركة 14 آذار بالبعد الاجتماعي، حدث العكس. ودخلنا إلى تأجيل القضايا الاجتماعية مرّة باسم الحقيقة، ومرّة باسم ضرورة حلّ مشكلة سلاح حزب الله. وبدل مواصلة المحقّق يومها على صعيد إعادة إنتاج سردية كيانية إسلامية مسيحية مشتركة للبنان دخلنا بشكل سريع إلى فترة المكابرة على الشقاق المذهبي الداخلي والاقليمي بين السنّة والشيعة، والمكابرة على كون المناخ الأكثري بين المسيحيين، أي العونيين، إنتقل من ضفة سياسية إلى نقيضها، وقبل كل شيء لأنّ القوى الأخرى في 14 آذار ما كانت قابلة وقتها لتبني ما يطالب به هؤلاء، من حقّ يعتبرونه بديهيا للعماد ميشال عون في الرئاسة.
اليوم، ثمّة حاجة أيضا إلى الجمع بين التجذّر والتوازن، إنما على أرضية مختلفة عن ظرف 14 آذار. فالحاجة إلى كيانية وطنية لبنانية تعدّدية رحبة لا تغرق في خطاب الفرادة الكلية ولا تكابر على حجم البلد، كما الحاجة إلى نقلة نوعية، اجتماعياً وسياسياً، باتجاه التمثيل السياسي الفعلي للطبقات الشعبية المنحّاة عن المشاركة أكثر بعد ممّا هي منحّاة على الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية تجاهها، وأيضاً الحاجة إلى رؤية بيئوية اجتماعية لامركزية شاملة، لا يمكن من دونها استصلاح الزراعة، ولا إيجاد حلول لمشكلة الطاقة، ولا لمشكلة النفايات، ولا لمشكلات القطاع الصحي، التي تظهر بحدّة اليوم، بإزاء فيروس الكورونا… كلّ هذا يستدعي جذرية توازنية، إنّما شرط أن تكون مدركة لشروطها.. وهذا بعد لم يتأمّن المدخل المباشر إليه.