عندما يتحوّل العراق إلى غنيمة حرب

مدة القراءة 4 د


يُقال إنّ الدستور العراقي الجديد الذي وافق العراقيون على العمل به عام 2005 بتشجيع من المرجعية الدينية لم يكتبه عراقيون وإن كانوا قد صادقوا عليه. وفي كلّ الأحوال فإنّ العراقيين الذين تمّ اختيارهم لعضوية لجنة كتابة ذلك الدستور ما كان لهم أن يعترضوا على فقراته لا لأنّهم كانوا خاضعين لإرادة المحتلّ الأميركي بسبب تبعيّتهم له وحسب، بل ولأنّ الموادّ التي وردت فيه هي أشبه بألغام جاءت منسجمة مع رغبتهم في أن لا تقوم قائمة لدولة في العراق. غير أنّ واحدة من تلك الموادّ تؤسّس لعراق مهدّد بالتفكّك من غير أن يكون قادراً على الدفاع عن وحدته وسيادته على أراضيه بسبب ضعف قواته العسكرية التي حلّت محلّها ميليشيات الحشد الشعبي بمهمّاتها التي تنحصر في حماية المذهب الذي هو تعبير ملطّف عن الدفاع عن المصالح الإيرانية.
تلك المادّة التي جاءت تحت عنوان “المناطق المتنازَع عليها” يُقصد بها الاعتراف قانونياً بأنّ هناك دولة داخل دولة العراق يحقّ لها أن تستعيد مناطق هي جزء من أراضيها.

العراق دولة تموّل الانفصاليّين عنها
“كردستان” هي تلك الدولة بعدما تمّ حذف عبارة “شمال العراق” التي كانت تضع المدن التي يقيم فيها الأكراد ضمن خريطة العراق بحيث تخضع للسلطة السياسية التي تحكم في بغداد. وإذا ما كانت تلك المنطقة قد تمتّعت بالاستقلال النسبي منذ أن فُرض قرار حظر الطيران العراقي فوقها عام 1991، فإنّها بعد 2003، وهو عام الاحتلال الأميركي، انفصلت بشكل كامل عن الكيان السياسي العراقي. لها رئيسها وعلمها وسفاراتها وبرلمانها وحكومتها وفضاؤها وأجهزة أمنها. هناك صلة واحدة تربطها بالعراق تكمن في حصّتها من الميزانية السنوية التي هي عبارة عن إيرادات النفط. فالعراق وفق تلك العلاقة يموّل دولة كانت قد انفصلت عنه. دولة تقع على شماله ولم تعد مدنها جزءاً من شماله.

لم يكن الأكراد في حاجة إلى استفتاء عام 2017 ليؤكّدوا انفصالهم عن العراق. كان ذلك خطأ ارتكبه مسعود البرزاني رغبة منه في الاستعراض

لم يكن الأكراد في حاجة إلى استفتاء عام 2017 ليؤكّدوا انفصالهم عن العراق. كان ذلك خطأ ارتكبه مسعود البرزاني رغبة منه في الاستعراض. وهو يعرف أنّ دولته المستقلّة تماماً لن تقوى على العيش من غير التمويل العراقي الذي هو التعبير الأمثل عن السخرية السياسية. فليست هناك دولة في التاريخ قد موّلت دولة كانت قد انفصلت عنها. ولكنّ ذلك ما أراده الأميركيون، وهو الثمن الذي يجب أن يدفعه العراق لقاء مساهمة الأكراد في تيسير عملية الغزو الأميركي من خلال توفير مواقع آمنة للقوات الأميركية المهاجمة. يدفع العراق منذ أكثر من عشرين سنة ثمن احتلاله للأطراف التي ساهمت في ذلك الاحتلال. غير أنّ ذلك كلّه لا يشكّل بالنسبة للزعامات الكردية شيئاً مقابل ما صار يُسمّى بـ”استرداد” الأراضي التاريخية للأكراد لكي تُضمّ إلى “دولة” كردستان. تلك هي المناطق المتنازَع عليها التي تشكّل أكثر من نصف مساحة العراق غير الصحراوي. بمعنى أنّ العراق سيتحوّل إلى صحراء لو استولى الأكراد على تلك المناطق. ومن المؤكّد أنّ العراقيين الذين بصموا بأصابعهم الملوّثة بالحبر البنفسجي على الدستور سيُفجعون لو اطّلعوا على القائمة التي تضمّ تلك المناطق. كذبة تمتدّ من سنجار إلى جلولاء.

القرار الإيرانيّ هو الأهمّ
تماطل الأحزاب الشيعية الحاكمة في التفاوض على تسليم المناطق المتنازَع عليها إلى الأكراد، لا لأنّها تخشى أن تقع في شبه خيانة للعراق التاريخي، وهو ما لا تخشاه، بل لأنّ الأوامر من إيران لم تصدر بعد. وهي لن تصدر لأنّ إيران لا ترغب في قيام دولة كردية شمال العراق يتماهى فقط مع رغبة أميركية في إقامة إقليم كردي مستقلّ. ذلك الإقليم من وجهة نظر إيران ينبغي أن لا يتحوّل إلى دولة، ففي قيامه تحريض لأكرادها على الانضمام إلى الحركات التي تعتبرها إرهابية والتي تسعى إلى إقامة وطن قومي، هو جزء من كردستان الكبرى.  

إقرأ أيضاً: إن ذهبت كركوك فلا عراق بعدها

إذاً العراق هو المختبر بالنسبة لإيران، وكذلك بالنسبة لتركيا. وهو ما يجعل تصرّفات حكومته محطّ أنظار الدولتين. لذلك سيكون من العسير على حكومته أن تنفّذ أجندتها في التخلّي عن أراضيه التي بدأتها بالتخلّي عن كركوك. سيكون من الصعب على الحكومة العراقية أن تأمر ميليشيات الحشد الشعبي بالانسحاب من مدن كثيرة هي موقع خلاف، وبالأخصّ تلك المدن التي تقع في محاذاة الحدود الإيرانية. لقد أصبحت تلك المدن مناطق إيرانية خالصة، حتى رئيس الوزراء العراقي لن يتمكّن من دخولها.

 

*كاتب عراقي

مواضيع ذات صلة

عودة “روكي”: جنون أميركا في ظلّ ترامب

كان هناك وقتٌ، في الزمان غير البعيد، حيث الانتخابات الأميركية كانت تُحكم بالمبادئ: كانت هناك برامج انتخابية، قيم، واحترام للمنصب. ثمّ جاءت سنة 2024، وقرّرت…

قوافل النّازحين… وفكرة “السّلام” المُلتبس

منذ 17 أيلول الماضي يوم شرعت إسرائيل في حربها ضدّ الحزب عبر تفجير أجهزة البيجرز والتوكي ووكي، بدأ النزوح الداخلي من جنوب لبنان وضاحية بيروت…

الكويت: تأكيد الهوية الوطنية لأهلها فقط..

على الرغم من الضجيج في المنطقة وأصداء أصوات الانتخابات الأميركية وما سبقها وتلاها، لا صوت يعلو في الكويت على صوت “تعديل التركيبة السكاّنية”، من خلال…

السّودان: إيران وروسيا تريدان قواعد عسكريّة

يغطّي غبار القصف الإسرائيلي على غزة ولبنان صور المأساة المروّعة التي تعصف بالسودان، أكبر دولة عربية من حيث المساحة. فقد اضطرّ حتى الآن خُمس السكان،…