بعيداً عن كلّ التفاصيل الميدانية من غارات واقتحامات ومجازر أو تحليلات صحافية أو رسمية، فإنّ ما يجري في قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول وضع العالم في مأزق كبير.
كلّ الدول والكيانات تعيش مأزقاً كبيراً. هي مأزومة بفعل ما يحصل في غزّة. وحدها حركة حماس خارج دائرة التأزّم، وما تفعله بمواجهة الجيش الإسرائيلي هو السبب الأساس الذي أنشئت من أجله. هي كما تُعرّف نفسها حركة مقاومة إسلامية مسلّحة، أي أنّها مكوّن مسلّح يهدف إلى قتال إسرائيل، وهذا ما تمارسه اليوم. مع الإشارة إلى أنّها لا تجيد أيّ دور غيره في السياسة أو الاقتصاد أو التنمية. كلّ بياناتها خُتمت بعبارة إنّه جهاد نصر أو استشهاد.
ما فعلته حماس في السابع من تشرين الأول بأسوأ الأحوال يشبه تماماً ما فعله المواطن التونسي محمد البوعزيزي عام 2010 الذي أشعل النار بجسده بسبب صفعة تلقّاها من شرطية تونسية فأشعل معه العالم العربي بثورات واحتجاجات ما زالت تداعياتها حتى اليوم. أشعلت حماس نفسها وقطاع غزّة في الهجوم على مستوطنات غلاف غزّة، فإذا بطوفان الأقصى يُغرق المنطقة والعالم سياسياً.
بعيداً عن كلّ التفاصيل الميدانية من غارات واقتحامات ومجازر أو تحليلات صحافية أو رسمية، فإنّ ما يجري في قطاع غزّة منذ السابع من تشرين الأول وضع العالم في مأزق كبير
وضعت غزّة وأحداثها الدامية العالم أمام أسئلة تأسيسية أو يمكن القول أسئلة وجودية وكأنّها أعادت الزمن وعقارب الساعة إلى الوراء كثيراً ليس إلى حرب 67 ولا حتى إلى نكبة 47 بل إلى ما قبل كلّ ذلك، إلى لحظة تأسيس الأزمة الفلسطينية عندما منح البريطانيون اليهود الصهاينة “وعد بلفور” عام 1917 الذي ينصّ على حقّهم بإقامة وطن قومي على أرض فلسطين.
إسرائيل والقلق على المصير
وجدت إسرائيل نفسها في ليلة وضحاها أمام أسئلة وجودية تبعث القلق حول المصير والمآلات المنتظرة.
1- هل هناك إمكانية لاستمرار وجود دولة إسرائيل؟
2- هل يمكن حماية هذه الدولة؟
3- هل يمكنها أن تكون أرض الهجرة لليهود في العالم؟
4- هل ما زال بإمكانها حشد الرأي العامّ الغربي حولها؟
5- أما زال الإسرائيليون راغبين بالعيش في إسرائيل؟
السلطة الفلسطينيّة وترهّل الأدوات
لم يكن يكفي السلطة الفلسطينية ومعها منظمة التحرير الفلسطينية وتحديداً حركة فتح ما يواجهونه من أزمات وصراعات بين الأجيال لتأتي الأحداث المدويّة بمنزلة الزلزال الذي تدحرجت معه الأسئلة المصيرية:
1- هل نموذج السلطة الفلسطينية كإدارة للسلطة الإدارية والسياسية تمكّن من صوغ حكاية نجاح، تحديداً بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات؟
2- هل السلطة الفلسطينية بتكوينها الحالي قادرة على ملء الفراغ السياسي المهول بالساحة الفلسطينية؟
3- هل الحرس القديم في حركة فتح قادر على مواصلة تصدّر المشهد أم حان وقت الانكفاء؟
4- كيف يمكن تجاوز بحر الدماء في غزّة لحشد الشعب الفلسطيني خلف قياداته السياسية والرسمية لإعادة تكوين السلطة ومؤسّساتها؟
العالم ما قبل حرب غزّة من المؤكّد أنّه لن يكون هو نفسه ما بعد حرب غزّة. تحوّلات كبرى مقبلة من شأنها أن تعيد رسم الخارطة الدولية في الجغرافيا والسياسة وشرعة حقوق الإنسان
الدور المفقود للعرب والمسلمين كمؤسّسات
لا يختلف اثنان حول مأزق العجز في المبادرة والفعل الذي وجدت الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي نفسيهما فيه بمواجهة ما تتعرّض له غزّة إن لجهة فكّ الحصار وإغاثة المحتاجين أو لجهة المبادرة السياسية إلى إنتاج الحلول والتسويات، وهو ما جعلهما أمام سؤالين مصيريَّين:
1- ما الفائدة من وجودهما بعدما ابتلعت النيران والحروب الكثير من الدول الأعضاء وعجزتا في مواجهة كلّ هذه التحدّيات والاستحقاقات؟
2- اتّفاق الدفاع العربي المشترك، ما هو دوره؟ ولماذا وُضِعَ؟ ومتى يُنَفّذ؟ وكيف؟
3- أين المنظومة الإسلامية في صياغة رؤية مشتركة ونظام يحفظ الحقوق والمكتسبات ويخاطب الكيانات الدولية الأخرى من موقع الندّيّة والشراكة؟
المجتمع الدوليّ الشاهد الغائب
ربّما أبرز تداعيات عدوان غزّة هو إظهار مدى عجز المجتمع الدولي عن ترسيخ الاستقرار والسلام العالميَّين المبنيّين على العدالة ووحدة المعايير لكلّ شعوب الأرض ووقف أيّ اعتداء تتعرّض له الإنسانية وقيمها. هناك هوّة كبيرة ظهرت ما بين تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي طالبت إسرائيل بإقالته والعجز الصامت الذي تعاطت معه مؤسّسات الأمم المتحدة وتحديداً مجلس الأمن في ما يتعلّق بعدوان إسرائيل، الأمر الذي جعل هذه المؤسّسة أيضاً أمام أسئلة وجودية كبرى.
1- أما زالت الأمم المتحدة قادرة على الاستمرار بنظامها الحالي؟
2- أما زال مجلس الأمن قادراً على حماية السلم والاستقرار الدوليّين؟
3- هل فقدت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان مرجعيّتها بالنسبة لشعوب العالم أم باتت حبراً على ورق وتحتاج إلى آليات جديدة للتطبيق واستعادة الهيبة المرجعية؟
4- هل الديمقراطية وسيلة للعيش الرغيد أم شعار سياسي يُستخدم وفق الحاجة الديمقراطية؟ أحقّاً ما زالت الدول الديمقراطية الكبرى كالولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا قادرة على المناداة بالديمقراطية في العالم مع استمرار منطق ازدواجية المعايير؟
إقرأ أيضاً: المهدي وأرطغرل لن يأتيا إلى غزّة؟
تعيد حرب غزّة تشكيل الشرق الأوسط لا بل العالم برمّته. ما حصل في محيط غزّة وليس غلاف غزّة (ملعون صاحب هذه التسمية) في السابع من تشرين الأول هو حدّ فاصل ما بين مرحلتين، لا بل يشكّل حدثاً وجودياً لدول وكيانات ليس بالضرورة أن تبقى، وإن بقيت فلن تكون كما كانت قبل هذا التاريخ.
العالم ما قبل حرب غزّة من المؤكّد أنّه لن يكون هو نفسه ما بعد حرب غزّة. تحوّلات كبرى مقبلة من شأنها أن تعيد رسم الخارطة الدولية في الجغرافيا والسياسة وشرعة حقوق الإنسان. لم يعد هناك إمكانية لمنطق الازدواجية كما لم يعد هناك مكان لمنطق الاستبداد وانحيازية المصطلحات من الإرهاب إلى تصنيف المدنيين وانتهاءً بحقّ الدفاع عن النفس. إنّه عصر جديد، عصر من العدالة تصحّ تسميته “عصر غزّة”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ziaditani23@