عندما عدتُ من الدراسة بألمانيا عام 1977 كان من أوّل ما أمَّلْتُه أن تتاح لي الفرصة للكتابة في جريدة السفير الزاهرة، كما كان العديد من زملائي بالجامعة اللبنانية يفعلون. وبين 1977 و1979 تعرّفت على الياس الخوري وحازم صاغية بين آخرين، كانوا يعملون بالجريدة، فدأبْتُ على دفع الخاطرات الثقافية والسياسية التي كانت تعرض لي، إليهم، لنشرها بـ”السفير”.
حتى إذا كان عام 1979 وقامت الثورة الإيرانية، واندفع الرئيس المصري أنور السادات لمصالحة إسرائيل، جمعنا الأستاذ طلال سلمان صاحب الجريدة ورئيس تحريرها في جلسةٍ تشاوريّة، وكنّا حوالى خمسة عشر معظمهم من أساتذة الجامعات والمثقّفين، واقترح علينا جميعاً التركيز على الكتابة في الحَدَثين. وكان من نصيبي الكتابة عن الثورة الإيرانية من حيث خلفيّاتها وأصولها وإمكانيّاتها وآثارها على الإسلام وعلى العرب وعلى العالم.
إلى هذين الحدثين البارزين، صعدت ظواهر احتفاء المثقّفين الغربيين الكبار بالثورة (ميشال فوكو مَثَلاً)، ومراجعاتهم لمصائر العلمانية وظاهرة عودة الدين. فالحرب العراقية على إيران، والشخصية الأسطورية للإمام الخميني، والتمرّد الأبوكاليبتيّ في الإسلام السنّيّ واحتلال البيت الحرام، وإلى الحرب الإسرائيلية على منظّمة التحرير في لبنان بقيادة شارون وصولاً إلى بيروت.
ما كان طلال سلمان دوغمائياً ولا انتهازياً، واتّسم سلوكه بالكثير من البراغماتية. لكنّه في خطابه وكتابته وأحاديثه إلى المثقّفين ظلّ واحداً أوحد: الناصرية وأبو خالد عام 1965
لستُ أقصد هناك إلى استعراض تسلسل الأحداث أو تراكمها، بل أقصد إلى تطوّر علاقتي أو علاقتنا نحن المثقّفين بالأستاذ طلال. كان هو يتابع ويجمع الأخبار والمعلومات والتوقّعات، وفي الوقت نفسه كان يناقش كلّاً منّا ويستحثّه على المزيد من التعمّق في القراءة النقدية. معظم الزملاء كانوا من اليساريين، لذلك عندما صدر الدستور الإيراني عام 1980، ما عهد الأستاذ إلى أحدٍ منهم بقراءة الدستور الجديد وتحليله، بل عهد بذلك إليّ حسباناً منه ليس لثقافتي الدستورية، بل لمعرفتي التراثين الإسلاميَّين الشيعي والسنّيّ.
على أيّ حال، ما عدتُ أذكر كم كان نجاحي في التحليل والإقناع، بل الذي أذكره أنّني جمعتُ في الدراسة بين نصّ ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية (نشرته وقتها “دار الطليعة”) والأحكام السلطانية للماوردي. وحينئذٍ نبّهني صديقي الأميركي روي متحدة (الذي نشر فيما بعد عام 1986 كتابه الشهير: “بُردة النبي، الدين والسياسة في إيران”، وترجمته إلى العربية فيما بعد أيضاً) إلى الفرق بين ثقافة رجل الدين الإيراني ورجل الدين السنّيّ. فالسنّيّ يقول في خطابه إنّ دستوره القرآن، بينما منذ ثورة عام 1905 بإيران، صار رجل الدين الإيراني، وسواء أكان تقدّمياً دستورياً أو محافظاً، يعمد إلى اجتراح دستورٍ بثورةٍ وبدون ثورة، أيّاً يكن توجّهه أو نظرته للحداثة السياسية والاجتماعية.
صداقة 50 عاماً.. من “العروبة”
بين 1979 و1985 صرتُ صديقاً للأستاذ طلال الذي ظلّ على مدى خمسين عاماً وأكثر يبحث عن الجديد الجادّ في الثقافة والسياسة والاستراتيجية. وظلّ عميق الإيمان بالإنسان العربي وبإمكانيّات التجاوُز والنهوض. وهو كان مثلنا أو كنّا مثله لا نعتبر لبنان وأحداثه مقياساً، ونتطلّع إلى مصر وسورية والسعودية والعراق باعتبار أنّ سياساتها هي المقياس.
لقد غادر كثيرون منّا مركب القومية العربية، لكنّ الأستاذ طلال ظلَّ يراوح بين سورية والعراق، حتى إذا سيطر عليه الأسى زار مصر والأستاذ محمد حسنين هيكل بالذات لكي يذكر ويتذكّر الحقبة الناصرية الخالدة. وتلبّث عند الرئيس حافظ الأسد طويلاً حتى إذا توفّي الأسد وأُعدم صدّام حسين، انصرف بكلّيته إلى تقديس “المقاومة” باعتبارها الأمل الأخير، وبخاصّةٍ بعد عام 2006. أمّا في عام 2014 فقد أصدرت الجريدة كتيّباً عن مقابلةٍ مع حسن نصر الله عنونت لها: “السفير في حضرة التاريخ”!
ما كان طلال سلمان دوغمائياً ولا انتهازياً، واتّسم سلوكه بالكثير من البراغماتية. لكنّه في خطابه وكتابته وأحاديثه إلى المثقّفين ظلّ واحداً أوحد: الناصرية وأبو خالد عام 1965.
ازدهرت الصحافة في لبنان باعتباره ساحة صراع على الشرق الأوسط، بين العرب وإسرائيل، وبين الأطراف العربية. وفقدَ لبنان ومعه صحافته جزءاً من أهميّتهما بخروج ياسر عرفات ومنظّمة التحرير منه
لقد عاصرنا، نحن السبعينيّين اليوم ببيروت، صحفاً لبنانيّةً وعربيةً كبرى مثل “النهار” و”الحياة” و”المحرّر” و”السفير”. وقد كتب كثيرون منّا فيها جميعاً. لكنّ “السفير” ظلّت الأعمق في الذاكرة والحضور. لذلك عندما توقّفت قبل ستّ سنواتٍ، كنتُ بين الذين اعتبروا أنّ الصحافة اللبنانية انتهت، وما عدتُ للكتابة في الصحف ووسائل الإعلام اللبنانية إلا مع موقع “أساس” قبل أربع سنوات.
ما الذي جعل لجريدة السفير ذلك التأثير الكبير في جيلين؟
– الدعوة القومية أوّلاً.
– وشخصية طلال سلمان ثانياً.
الصحافة اللبنانية ليست صحافة مؤسّسات، بل هي صحافة أفرادٍ وأعلام. ولذلك بقي كامل مروّة في “الحياة” مع أنّ الجريدة البارزة ظلّت تصدر خمسين عاماً وأكثر بعد استشهاده.
ولا نذكر “النهار” إلّا مع غسّان تويني على الرغم من أنّها ما تزال تصدر وقد توفّي قبل قرابة عقدين.
أمّا “السفير” فقد ارتبطت بطلال سلمان، عاشت به ومعه، وانقفلت قبل وفاته، لكنّني أجزم (وما رأيتُه في سنيه الأخيرة) أنّه رحمه الله تلبّث عند أطلالها وما غادرها إلّا إلى مثواه الأخير.
ازدهرت الصحافة في لبنان باعتباره ساحة صراع على الشرق الأوسط، بين العرب وإسرائيل، وبين الأطراف العربية. وفقدَ لبنان ومعه صحافته جزءاً من أهميّتهما بخروج ياسر عرفات ومنظّمة التحرير منه. ثمّ فقدَ جزءاً آخر من أهميّته للصحافة وللعالم عندما سيطر حافظ الأسد عليه. وانتهى لبنان ومعه صحافته عندما صار كلُّ حدثٍ فيه مهما صغُر تُسأل عنه إيران!
عاش طلال سلمان الرائد والمكافح هذه المراحل كلّها، وسيطر عليه الوعي بالانقضاء بعد إقفال السفير. وعندما شكا لي في إحدى المناسبات كثرة الأمراض بعد توقّف “السفير”، قلتُ له ضاحكاً: لن يصيبك شيءٌ لا سمح الله ما دام محمد حسنين هيكل حيّاً يدخل إلى “الجزيرة” ويخرج منها مستأذناً للانصراف ثمّ لا ينصرف (!).
إقرأ أيضاً: الصحافة اللبنانيّة عاصمتها جريدة “السفير”
فلمّا توفّي هيكل عن قرابة مئة عام كلّمني الأستاذ طلال وقال ضاحكاً هذه المرّة: “هيكل انصرف بالفعل، فماذا ترى؟”. بكينا معاً وانقفل الخطّ، وكان ذلك قبل سنواتٍ لا تُحصى شقاءً وعياءً.