يقع بعض الثوّار في مأزق حينما يذهبون إلى تقييم العنف. فالعنف، اذا ما خدم مصلحة الثورة كان حميداً. ثم إذا ارتدّ ليضرب الثورة والثوار، بات خبيثاً، منبوذاً ومداناً. هكذا يمكن لشخص واحد، أن ينال الإطراء والمديح على مساهمته في عنف تعتبره الثورة “حميداً”، كتحطيم المصارف مثلاً، ثم ما يلبث الشخص نفسه، أن يتحوّل إلى “وحش” منبوذ حينما يمارس عنفاً مشابهاً على متظاهرين يهتفون ضد زعيمه السياسي.
نحن إذاً أمام معضلة. هي معضلة حاول الفيلسوف الفرنسي اللاّعنفي جان ماري مولر أن يجد لها حلاً في نصّ كتبه لمنظمة اليونيسكو في العام 2002. مولر يقرّ بضرورة تعريف العنف بطريقة يتعذّر معها وصفه بـ”الحميد”. فادعاء القدرة على التمييز بين عنف “حميد” وآخر “خبيث” عبر اجتراح معايير تمكّننا من تصنيف العنف، يضعنا أمام ارتباك، يجرّنا إلى استسهال توظيف هذه المعايير لتبرير ممارستنا العنفية الخاصة.
بمعنى آخر، بحسب مولر، نحن حينما نفرز العنف بين “جيد” و”سيء”، إنما نبرّره على جميع المستويات، ويصير صعباً مع هذا الفرز إدانة العنف، لأن إدانةً كهذه تشتمل على إدانة العنف “الصالح” في عزاء العنف “الطالح”.
قد يبدو الخروج من هذا المأزق سهلاً لمن يريد تبسيط الأمور: “العنف وسيلة خبيثة تبررها الغاية الحميدة، أمّا إذا كانت الغاية خبيثة، فلا تبرير للعنف”. لكن ممارس العنف “الخبيث” هذا يمكنه أيضاً أن يبسّط الأمور ويردّ: “العنف وسيلة خبيثة تبررها الغاية الحميدة”. وقد يقول: “العنف وسيلة حميدة تبررها الغاية الحميدة”. هكذا في تموضعه، لن يرى العنف إلا من زاوية محمودة. بل إنه قد يذهب بعيداً في تبرير العنف على أنّه لمصلحة الضحية، وقد انتشر على تطبيق واتساب “ستيكر” ساخر يصوّر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله رافعاً إصبعه مهدداً مرفقاً بعبارة “عم بضربك كرمال مصلحتك”.
هو عنف تأديبي إذاً، من يمارسه يسوّغه لنفسه، ويضفي عليه مشروعية تبررها الغاية الحميدة التي يضعها نصب عينيه. لكن التبسيط، في الحالتين، لا يقدّم حلاً للمعضلة. فلو ذهبنا في منطق التبسيط نفسه إلى صراع في مرتبة أعلى، كالصراع مع العدو الإسرائيلي، تبدّى المأزق “عنيفاً” بدوره. فالعنف الممارس من الإسرائيليين تجد دائماً من يبرّره في العالم “الحر”، فيما تجد أن ردّ الفعل على هذا العنف، بما هو فعل مقاومة، مُدان. ألم تستند السردية الإسرائيلية، خلال الاحتلال الإسرائيلي للجنوب دائماً على تبرير العنف على أنه يصبّ في مصلحة سكان الجنوب، ولحمايتهم من “المقاومة” أي بمعنى آخر من أنفسهم؟
في سياق مشابه، اختار سلافوي جيجك في معرض تحليله للصراع العنفي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أن يستشهد في كتابه “العنف” بمثال من “العهد القديم” لحُكم الملك سليمان، حينما احتكمت إليه سيدتان، كلتاهما تدّعي الأمومة لطفل. ولكي يميّز سليمان بين الأم البيولوجية والأم بالتبني، اقترح تسوية عنفية (حلّ الدولتين؟): شطر الطفل إلى نصفين وإعطاء كل أم أحد النصفين. وهنا سارعت الأم البيولوجية إلى التخلي عن مطالبتها بالطفل لحمايته وإنقاذ حياته، فعرفها سليمان وأعطاها طفلها.
على غرار هذه التسوية، وكاقتراح لحلّ الأحجية – المعضلة، يمكن فحص الغايات الحميدة من الغايات الخبيثة لممارسي العنف الثوري والأنتي – ثوري على السواء، والتعرف إلى “الأم البيولوجية” للبنان – الطفل: أيهما سيتنازل عن عنفه إذا شعر أنّ عنفه قد يؤدي إلى قتل الطفل/ تدمير البلد.
المعادلة السورية “الأسد أو نحرق البلد” التي أرساها النظام وانتصر لها، وبها، ومزّق بأمومته الزائفة الطفل/البلد السوري، ماثلة أمامنا، للتأمّل وأخذ العبر.