على هامش البوانتاج المكثّف الذي يجري لمعرفة تموضع النواب، وخاصة المستقلّين والتغييريّين بينهم، إلى جانب هذا المرشّح الرئاسي أو ذاك، ثمّة سؤال يطرح نفسه: كيف يتّخذ النواب قراراتهم؟ وهل هم نواب سياسيون أو “لايت”؟
يشمل السؤال عن قراراتهم انتخابات رئاسة الجمهورية، وكذلك مشاريع القوانين، وكلّ القرارات التي يتّخذونها طوال “العهدة” البرلمانية. ونقول “عهدة” لأنّ الشعب هو من عهد إلى هؤلاء النواب تمثيله في البرلمان بوكالة مؤقّتة. ويُفترض أنّ تجديد هذه الثقة واستمرارها مرهونان بمدى قدرة كلّ نائب على تمثيل ناخبيه وأبناء دائرته الانتخابية.
إذا أخذنا طرابلس نموذجاً لقياس هذه العلاقة، فإنّه يتبيّن لنا أنّ مستوى التواصل بين نوابها والناس هو في أدنى مستوياته. كذلك الجانب السياسي في هذه العلاقة. الأمر ليس مطروحاً من باب النقد، بل من باب التساؤل الجدّي عن كيفيّة تعرّف النواب على آراء الناس من نُخب وجماهير في مختلف القضايا المطروحة، وعن “السياسة” وغيابها عن طرابلس. تلك المدينة التي كانت “عاصمة” ثورة 17 تشرين المطلبية – السياسية.
التدقيق في حسابات نواب طرابلس تكشف قلّة نشاط أغلبهم. علاوة على عدم وجود أيّ تواصل حقيقي مع الناس، إذ يكتفي الواحد منهم بوضع تغريدة له أو تدوينة تتضمّن موقفاً، من دون التفاعل مع ردود الأفعال والتساؤلات في التعليقات
العلاقة مع النُخب
في الشهر المنصرم، شهدت طرابلس حدثين بارزين. الأوّل هو معرض الكتاب السنوي الـ49 في الرابطة الثقافية بطرابلس، الذي يُعتبر تظاهرة اجتماعية تشكّل مساحة تلاقٍ مهمّة وحيوية بين أطياف المجتمع الطرابلسي، أكثر منه محطة سنوية لعرض الإنتاج الأدبي والفكري، في ظلّ الأزمة التي ترخي بثقلها على الكتب والمكتبات ودور النشر.
نبدأ من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي أُقيم المعرض برعايته، لكنّه لم يجد لديه أيّ فسحة زمنية لزيارته طوال أيامه العشرة، حتى إنّه كلّف وزير الثقافة بتمثيله في افتتاحه، ومثله أيضاً وزير الداخلية بسام مولوي. أمّا نواب دائرة الشمال الثانية (طرابلس، الضنّية، المنية) فمنهم من غاب، ومنهم من حضر من باب إثبات الوجود ليس إلّا، حيث غلب على مشاركتهم التقاط الصور لتوزيعها على وسائل التواصل الاجتماعي من دون المشاركة في أيّ ندوة أو محاضرة أُقيمت على هامش المعرض.
تكتسب هذه المناسبات أهميّة كبرى انطلاقاً من كونها تشكّل مساحة نقاش حيويّ بين النُخب. ليس فعل الغياب من قبل النواب قاصراً على معرض الكتاب، بل يشمل أيضاً أغلب الندوات والمحاضرات السياسية وغير السياسية التي تُقام في المدينة.
هذا يقودنا إلى الحدث الثاني، وهو المؤتمر الدولي الاغترابي لتنمية طرابلس والشمال “نعم قادرون”، الذي نظّمه “اتّحاد رجال الأعمال اللبنانيين الفرنسيين” و”جامعة بيروت العربية” و”لقاء الأحد الثقافي”، والذي أُقيم في حرم فرع الجامعة بطرابلس على مدى يومين في 5 و6 أيار الماضي. وقد شهد هذا المؤتمر مشاركة 29 متحدّثاً من الشخصيات اللبنانية والاغترابية ورجال الأعمال من دول مختلفة، وركّز على الشباب باعتبارهم محرّكاً للنموّ الاقتصادي.
على الرغم من أهميّة الحدث، غاب ساسة طرابلس عنه تماماً، ما خلا النائب إيهاب مطر، حتى إنّ لجنة تمثّل المنظّمين هي التي بادرت إلى زيارة رئيس الحكومة ووزير الداخلية لوضعهما في صورة ما جرى من نقاشات، والطلب منهما العمل على معالجة الوضع الأمنيّ في طرابلس من أجل توفير بيئة صالحة للعمل وجاذبة للاستثمارات. وإذا كان النواب لا يستمعون إلى آراء النُخب ونقاشاتهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولا يقرأون لهم أيضاً، والتواصل المباشر بين الفريقين شبه معدوم، فإلامَ يستندون في قراراتهم ومواقفهم مع أنّ النخب هم قادة الرأي العامّ والمؤثّرون فيه؟
حسب المعلومات المتداولة على نطاق واسع، قام النواب بتسليم وتلزيم حساباتهم إلى مساعدين أو شركات متخصّصة، الأمر الذي يفسّر عدم تفاعلهم مع التعليقات
الكسل الاجتماعيّ
ربّ قائل إنّ النواب يركنون إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتعويض هذا النقص، والاطّلاع على آراء جميع الناس، سواء من النخب أو من غيرها، ولا سيّما أنّ شبكات التواصل كانت الأداة السياسية والإعلامية الأمضى لدى مجموعات التغيير إبّان الحملات الانتخابية النيابية والنقابية.
بيد أنّ التدقيق في حسابات نواب طرابلس تكشف قلّة نشاط أغلبهم. علاوة على عدم وجود أيّ تواصل حقيقي مع الناس، إذ يكتفي الواحد منهم بوضع تغريدة له أو تدوينة تتضمّن موقفاً، من دون التفاعل مع ردود الأفعال والتساؤلات في التعليقات. وحسب المعلومات المتداولة على نطاق واسع، قام النواب بتسليم وتلزيم حساباتهم إلى مساعدين أو شركات متخصّصة، الأمر الذي يفسّر عدم تفاعلهم مع التعليقات.
أبعد من ذلك، فإنّ علاقة النواب مع الإعلام ملتبسة، إذ يبالغون في التركيز على الإعلام العاصميّ الأكثر تأثيراً في دوائر صنع القرار على حساب نظيره المحلّي. لذا ما من علاقة ندّيّة بينهم وبين الإعلام المحلّي يمكن أن تشكّل قناة حقيقية للوقوف على آراء الناس، بل هي علاقة يغلب عليها طابع التبعيّة، فيصطفي كلّ واحد منهم مجموعة من الشبكات الإعلامية لتغطية أخبار نشاطاته تخفيفاً لوجع الرأس فقط.
يبرز في هذا الإطار الرئيس نجيب ميقاتي الذي كان أوّل من أدخل إلى الثقافة السياسية الطرابلسية مفهوم المغرّدين والناشطين والمجموعات الإخبارية التي يستخدمها منابر للدفاع عنه منذ قبوله رئاسة حكومة القمصان السود عام 2011. وهذا النوع من الإعلام يفضّله ميقاتي لا لقلّة تكلفته فقط، بل أيضاً لأنّه يمنحه القدرة على البقاء في رماديّته، والتملّص ممّا كُتب أو قيل من قبل أشخاص لا يرتبطون به مباشرة. الدلالة الأوضح على ذلك تتمثّل في عدم ردّه على الهجوم الذي شنّه عليه النائب فيصل كرامي منذ أيّام قليلة، وإيكال ذلك إلى الشبكات والمجموعات الإخبارية التي تكفّلت بقدح كرامي وذمّه، وبلغت الردود حدّ الدخول في حياته الشخصية.
القواعد الشعبيّة
بالانتقال إلى القواعد الشعبية أو الخزّانات الانتخابية، ليست العلاقة بينها وبين النواب أحسن حالاً، إذ ينتهج هؤلاء نهجاً كلاسيكياً تقليدياً إبّان نيابتهم يقوم على فتح المجال لاستقبالات شعبية في يوم محدّد من الأسبوع. وتختصر الوفود الزائرة للمكاتب نمط العلاقة والتفاعل بين النائب والقاعدة الشعبية. فهي ما حضرت إلا لطلب خدمة معيّنة، أو لتقديم الشكر على تأدية خدمة. وما من نقاش حقيقي يمكن أن يحصل أصلاً في هذا النوع من الاستقبالات التي يتمّ التحشيد لها مسبقاً.
بيد أنّ هذا النمط من العلاقة هو ما يرتكز عليه النائب في الانتخابات. من هنا يمكن فهم حالة الخواء التي عانت منها مراكز الاقتراع في طرابلس حتى الساعة الأخيرة قبل إقفالها في انتخابات العام الماضي. فلا شعارات أو قضية جاذبة غطّت غياب التفاعل، وما من شخصيّة أقنعت الناس كي يلتفّوا حولها. وخارج نطاق الحملات الانتخابية، فإنّ زيارات النواب للمناطق الشعبية نادرة، وغالباً ما تكون بهدف إعلان خدمة. فالنشاط الاجتماعي لأيّ نائب هو الجزء المتمّم للنشاط السياسي بمعزل عن النوايا الطيّبة التي يصعب صرفها في صناديق الاقتراع.
إقرأ أيضاً: الزعامة الكراميّة تستعيد وهجها!
لوحظ في الآونة الأخيرة ازدياد حفلات التكريم التي يقيمها بعض النواب لعدد من الشخصيّات الطرابلسية، في محاولة لإثبات الحضور وخطب ودّ النُّخب ووجدان العامّة مع ضمان عدم إجراء أيّ نقاش سياسي فعليّ. يبقى الغائب الأكبر هو التواصل الشخصي المباشر وزيارات المنازل التي تُمكِّن أيّ نائب من الوقوف على حقيقة آراء مَن يزورهم بلا قفّازات سياسية. وهذه الزيارات محصورة لدى كلّ نائب بفئة محدودة جدّاً لا تتجاوز أصابع اليدين.
ختاماً من المفيد التذكير بأنّ واحداً من أبرز أسباب اندلاع انتفاضة 17 تشرين كان الرغبة العارمة للناس بإسماع صوتهم للسلطة والساسة بعدما يئسوا من البحث عن طريقة لذلك.