الموت في طرابلس لا يحتاج إلى قاتل، فالمدينة بتاريخها وحاضرها تدفن أبناءها: فها سقف مدرسة يسحق رأس فتاة، وجدار منزل في شارع يخطف أباً من بين أولاده، فيما البحر وقواربه يبتلع أرواح المئات، وأمّا أحلام أبنائها السياسية والاقتصادية فتُعدم خلف صور زعمائها.
كيف تعيش مدينة طرابلس حال الانهيار العامّ الذي ألمّ بلبنان حتى المحق والاختناق والبؤس؟
هنا الحلقة الثالثة من هذا التحقيق، في محاولة للإجابة عن هذا السؤال.
كاتب هذه السطور كان قد وضع سنة 2008 كتاباً استقصائيّاً وصفياً عنوانه “طرابلس: ساحة الله وميناء الحداثة” (دار الساقي)، تتألّف مادّته من شهادات سِيَر طرابلسيّين تروي أحوال المدينة الشمالية بين منتصف القرن العشرين والعشريّة الأولى من الألفية الثالثة. أمّا أكثر ما أجمع عليه الطرابلسيون اليوم فهو أنّ مدينتهم تتعايش مع الأوضاع اللبنانية الراهنة المزرية على القاعدة التالية: ساوى الانهيار اللبناني الزاحف منذ أكثر من سنتين لبنان كلّه بطرابلس المهملة، أو ألحقه انهياره بطرابلس، بعدما كانت أُلحقت به عنوة، فأهملها وهمّشها وأقصاها منذ نشأة دولة لبنان الكبير.
الرواية التاريخية الطرابلسية المعاصرة تقول أنّ مدينة طرابلس العريقة تعرّضت لإهمال وتهميش شديدين، بل تعرّضت للإفقار قصاصاً لها، منذ نشأة دولة لبنان الكبير حتى اليوم
طرابلسان
تنقسم طرابلس في جغرافيّتها وعمرانها واجتماعها الطبقي إلى طرابلسَيْن فقيرة وميسورة تفصل بينهما جادّة فؤاد شهاب وامتداداتها. والجادّة هذه محور حداثة الستّينيات في عاصمة لبنان الشمالي: خروجها من “حارات الأهل” في المدينة القديمة وأسواقها وطوائف حِرَفها التقليدية ومساجدها وتكاياها وتصوّفها، إلى “جادات اللهو” والتحديث، ومن عطلة “نهار الجمعة” إلى عطلة “نهار الأحد”.
وهذا حسب كتابَيْ خالد زيادة في السيرة المدينية الطرابلسية في العمران ونمط العيش.
تمتدّ جادّة فؤاد شهاب من مدخل طرابلس الجنوبي في البحصاص، وصولاً إلى مخرجها الشمالي في اتجاه حلبا وعكار، مروراً في ساحة عبد الحميد كرامي (النور حالياً) وساحة التلّ ومتفرّعاتها، رمز التحديث العثماني منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومركز طرابلس المديني وشبكة مواصلاتها والنقل فيها بعد نشوء دولة لبنان الكبير.
أمّا الطرابلسان اللتان تفصل بينهما الجادّة وامتداداتها والساحتان فهما:
طرابلس الفقيرة
طرابلس الشرقية المرتفعة قليلاً وتدريجاً على تلالٍ تعلو المدينة القديمة وما كان سهل الفيحاء الشهير ببساتينه. وتتوسّط هذه التلال قلعة طرابلس التاريخية الأثرية المشرفة على ساحة التلّ. وطرابلس هذه، أي الشرقية، تشمل ما صار بطيئاً وبالتدريج، منذ الخمسينيات، أحياءها الفقيرة:
1– حيّ المنكوبين في شمال المدينة، الذي نشأ بعد نكبة طرابلس بفيضان نهر أبو علي سنة 1955، وجرفه بيوتاً كثيرة على ضفّتيه، مخلّفاً ضحايا كثيرين. ومَن فقدوا بيوتهم لجأوا بصفتهم منكوبين إلى خلاءٍ على طرف طرابلس الشمالي، وأقاموا عليه أكواخاً مؤقّتة في انتظار إنشاء الحكومة (مصلحة أو إدارة التعمير) مساكن جديدة لهم. لكنّ المشروع ظلّ حبراً على ورق، نتيجة الإهمال والاستهتار وغياب التخطيط المدني وسوء الإدارة والتمييز الطائفي والطبقي الحكومي، فتكاثرت الأكواخ المزرية في “المنكوبين” مع تزايد موجات مهاجري الريف الشمالي إليه.
2– حيّ باب التبّانة الذي كان يُسمّى باب الذهب، عندما كان سوقاً قديماً لتجارة الحبوب ومكاناً لثروات تجّارها، ويقع على طرف المدينة القديمة الشمالي. مع انحدار هذه السوق وأفولها، تحوّلت أرضاً لتشييد البنايات الجاهزة التجارية لسكن مهاجري فقراء الريف العكّاري الشمالي. وسرعان ما صار في الخمسينيات والستّينيات خزّاناً للفقر والبؤس والعمران العشوائي، ولأفقر التجمّعات السكنيّة وأكثفها اكتظاظاً في لبنان.
3- بعل محسن الحيّ المقابل لباب التبّانة على مرتفع، ويفصل بينهما شارع سوريا. استقبل بعل محسن مهاجري الريف الشمالي العلويّين في معظمهم، وحوّله الإهمال وغياب التخطيط المدني وتكاثر العمران الفوضوي أحياء فقيرة بائسة ومكتظّة قبالة باب التبّانة الذي يغلب السُّنّة على سكّانه.
4- طرابلس الأسواق التقليدية بحِرَفها القديمة و”حارات الأهل” حولها، التي راحت ترتسم بدايات الإهمال والفقر فيها في الأربعينيات والخمسينيات مع انتقال فئات اجتماعية جديدة منها، بعدما أصابها اليسر، إلى مدينة الحداثة بجادّاتها وشوارعها العريضة والمستقيمة وبناياتها الجديدة المتعدّدة الطبقات. وفيما ترك المنتقلون المقتدرون الحارات، وتخلّوا عن لحمة علاقاتهم الأهليّة فيها، راح ينحدر نمط حياة غير المنتقلين من “أهل الضعف” وبقايا الأهل في الحارات، وينحدر معاشهم، ويتقادم ويرتثّ سكنهم ومستوى الخدمات العامّة في حاراتهم المنكفئة. وسرعان ما تحوّلت الأسواق الطرابلسية القديمة وحاراتها اللصيقة إلى ما سُمّي في أواخر الستّينيات ومطلع السبعينيات “دولة المطلوبين” من شبّان وفتوّات الأحياء وزمرهم المفقَرين و”الخارجين على القانون”.
تنقسم طرابلس في جغرافيّتها وعمرانها واجتماعها الطبقي إلى طرابلسَيْن فقيرة وميسورة تفصل بينهما جادّة فؤاد شهاب وامتداداتها
5– أحياء القبّة على التلّة خلف الأسواق القديمة والقلعة الأثرية. والقبّة التي تتكاثر في أحيائها الفقيرة البائسة اليوم، البيوتُ التراثية الجميلة المتصدّعة والخربة، ربّما كانت في الثلاثينيات والأربعينيات مصيفاً وموطن نخبةٍ من المقتدرين الجدد المنتقلين من الأسواق القديمة وحارات الأهل للإقامة في تلك البيوت المستقلّة والتراثية في نمط عمارتها. لكنّ الهجرات الريفية إلى أحياء القبّة حاصرت تلك البيوت، فهجرتها عائلاتها إلى عمارات الحداثة في غرب ساحة التلّ وجادّة فؤاد شهاب. وسرعان ما تحوّلت القبّة أحياء فقر وبؤس وعمران عشوائي وإهمال واكتظاظٍ سكّاني.
6– أبو سمرا التلّة المرتفعة المنبسطة التي تعلو ساحة عبد الحميد كرامي والبحصاص. كانت تكثر فيها كروم الزيتون شأن القلمون والكورة القريبتين. وكانت أبو سمرا مصيفاً لبعض عائلات طرابلس، فتكاثر فيها المشايخ الذين أنشأوا مدارس ومعاهد للتعليم الديني، وتزايد العمران المحدث فيها لسكن فئات متوسّطة وما دون المتوسّطة، وراحت تتوسّع عمراناً ومدارس مدنية ودينية. لكنّ أبو سمرا من أحياء طرابلس الشرقية، ويكاد عمرانها يشبه في بعض أحيائها عمران عبرا التي تكاثر فيها أتباع الداعية الإسلامي أحمد الأسير على مرتفعات شرق صيدا. ولا تخلو بعض أحياء أبو سمرا من الفقر والفقراء. وهي مستمرّة في توسّعها العمراني الفوضويّ نحو القلمون وأطراف الكورة.
7- مقبرة الغرباء التي تسكن فيها نحو 70 عائلة. وقد نشأت المقبرة قديماً في المدينة لدفن الغرباء عنها، حينما كان اجتماع الأهل وعلاقاتهم الأهليّة يعرّفان الناس في حياتهم وموتهم ويصنّفانهم إمّا منتمين إلى المدينة وعائلاتها أو بلا نسب ولا انتماء، أي غرباء عنها. والسكن المزمن المستمرّ والمتوسّع في هذه المقبرة لا مثيل له في لبنان. ولا في أي مدينة عربية غير مدافن القاهرة.
كيف أُهملتْ طرابلس؟
الرواية التاريخية الطرابلسية المعاصرة تقول أنّ مدينة طرابلس العريقة تعرّضت لإهمال وتهميش شديدين، بل تعرّضت للإفقار قصاصاً لها، منذ نشأة دولة لبنان الكبير حتى اليوم. والرواية هذه، حين تعدِّد مزايا طرابلس عراقةً وتحديثاً، غالباً ما تعتبر أنّ المدينة ظلّت، حتى عشيّات الحرب الأهلية (1975)، مدينة تتكاثر فيها المرافق الحديثة، كالمنتديات الثقافية والصحف المحليّة ودور السينما والمسارح والملاهي الليلية، على الرغم من سياسة الإهمال والإقصاء الحكومي التي أدّت إلى إفقارها، ثمّ أتت سنوات الحرب الأهلية الطويلة (1975-1990) على تلك المرافق كلّها وألغتها، فازدادت المدينة فقراً وتدميراً عمرانياً واجتماعياً، وصارت طرابلس مدينة منكوبة.
وعناوين هذه النكبات كثيرة:
1– نكبة فيضان نهر أبو علي سنة 1955، وإهمال معالجتها، ألحقا أضراراً فادحة في نسيج المدينة العمراني والاجتماعي والاقتصادي.
2– نكبة إهمال مرفأ طرابلس العريق والأقدم من مرفأ بيروت. فالمشاريع الكثيرة التي وُضعت لتحديث مرفأ طرابلس وتوسيعه، ظلّت بلا تنفيذ، فيما احتكر مرفأ بيروت النشاط التجاري في لبنان، وحُرمت منه طرابلس.
3– نكبة إقفال شركة نفط العراق (I.P.C) عشيّة الحرب سنة 1975. ففي سنة 1943 دُشّن العمل في منشآت “I.P.C” لجرّ النفط العراقي وتكريره في طرابلس. وبلغ عدد موظّفي هذه الشركة 4,800 شخص شكّلوا “جالية” كبرى، بينهم نسبة كبرى من أبناء طرابلس التي انطلقت فيها حياة اقتصادية واجتماعية ناشطة حول “مجتمع” “I.P.C” العصري، حسب موظّف قديم في الشركة التي كان موظّفوها، إلى اللبنانيين والطرابلسيين، من جنسيّات أجنبية كثيرة، وخصوصاً البريطانيين (500-600 موظّف). وقبل إحراق خزّانات الشركة ومنشآتها سنة 1983، كانت “جالياتها” قد رحلت كلّها عن طرابلس التي خسرت موارد اقتصادية وثقافية واجتماعية كبرى كانت تنشّط حياتها طوال عقود.
4– نكبة مطار القليعات الذي أنشأته “I.P.C” شمال طرابلس، واستعملته لطائراتها الخاصة بين بريطانيا والعراق والخليج. أمّا مكاتب الشركة الإدارية فشغلت ثكنة عسكرية قديمة في محلّة القبّة. وبرحيل الشركة خسرت طرابلس هذين المرفقين المهمّين. وكالعادة وُضعت خطط حكومية لتشغيل مطار القليعات، وظلّت كلّها كلاماً بلا تنفيذ.
5– نكبة معرض طرابلس الدولي الذي أُنشئ على مساحات شاسعة في طرابلس الغربية في بدايات العهد الشهابي (1958- 1964)، وكان واعداً في إنهاض حياة المدينة الاقتصادية والثقافية. لكنّ منشآت المعرض، الذي لم يكتمل أصلاً، أُهملت نتيجة عدم اهتمام الإدارة الحكومية بها، إضافة إلى كسلٍ في مبادرات المجتمع الطرابلسي، حسب كاتب وأستاذ جامعي من طرابلس ذكر أيضاً أنّ النظام السوري وقف ضدّ نشاط معرض طرابلس خشية منافسته معرض دمشق الدولي. وجرت محاولات كثيرة لإحياء المعرض الطرابلسي الدولي، لكنّها فشلت كلّها. ولم ينجح المعرض إلّا في إيواء بعض اللاجئين السوريين إبّان حروب الأسد على شعبه الثائر. واليوم منشآت المعرض متروكة للإهمال في مساحات فسيحة مسوّرة بالإسمنت.
6– نكبات الحرب (1975-1990) كثيرة ومتشعّبة:
– كان ربع سكّان طرابلس من المسيحيين، فهجروها على دفعات متلاحقة.
– سيطرة زُمر إمارة سعيد شعبان الإسلامويّة على طرابلس (1982-1985)، وترويع أهلها، وعزلها عن محيطها، وتقطيع أوصالها، ونزول ياسر عرفات فيها سنة 1983، وإخراجه منها حربيّاً عبر البحر.
– اقتصاص النظام السوري الأسديّ من طرابلس والثأر منها بالتدمير والمقاتل، خصوصاً في باب التبّانة الفقيرة.
إقرأ أيضاً: طرابلس القتيلة (2): بشر الخراب والصدأ والجرذان في باب التبّانة
– تركيز جهود رفيق الحريري الإعماريّة في البنية التحتية في بيروت، على الرغم من أنّ طرابلس منحته ولاءها بعد الحرب. تقول سرديّة إنّ النظام السوري الأسديّ منع الحريري من إحداث نهضة عمرانية واقتصادية في طرابلس، كما في صيدا.
إلى جانب هذه النكبات المتلاحقة، يتحدّث بعض النُّخب الطرابلسيين عن محافظة تشوب المجتمع الطرابلسي وتُثنيه عن الإقدام على مبادرات واستثمارات اقتصادية مجزية ومفيدة. إلى ذلك اتّبع الأثرياء والسياسيون الطرابلسيون نظام إعالة مواليهم ورشوتهم انتخابياً للحصول على ولائهم، بدل الإقدام على استثمار أموالهم في مشاريع اقتصادية تقلّل من البطالة والعوز والبؤس في طرابلس.
غداً حلقة أخيرة: طرابلس القتيلة (4): مدينة نائمة كجثّةٍ.. هل يوقظها تجدُّد لبنان؟