لقد برهن تطوّران سياسيّان في الأيام القليلة الماضية أنّ “النظام اللبناني” يستطيع حتّى إبّان أشدّ أزماته أن يؤكدّ رسوخ خصائصه التكوينية لجهة قدرة الطوائف والزعامات السياسيّة على تأكيد موقعها في البنى الرئيسية لهذا النظام. التطوّر الأوّل كان “الاجتماع الأرثوذكسي” في مطرانية بيروت للروم الأرثوذكس استنكاراً لـ”الإجحاف” الذي يتعرّض له أبناء الطائفة في مناصب الدولة. والتطوّر الثاني كان المؤتمر الصحافي لرئيس “المردة” سليمان فرنجية دفاعاً عن أحد المطلوبين “للقضاء العوني” في قضية “الفيول المغشوش”، وهو محسوبٌ على “المردة” فضلاً عن أنّه كان “صديق طفولة” النائب السابق عن قضاء زغرتا و”المرشّح الدائم” إلى رئاسة الجمهورية.
صحيح أنّ الأمرين منفصلان ولا رابط بينهما، لكنّ كلاهما يبدوان “غريبين” إذا ما قيسا على تطوّرات الأوضاع اللبنانية بعد 17 تشرين الماضي، سواء لجهة التغيير الذي يفترض أن تكون الانتفاضة الشعبية قد أحدثته في السلوك واللغة السياسيين، أو لجهة تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية إلى حدود خطيرة يبدو معها استئناف الصراع السياسي/الطائفي بمثابة انفصال عن الواقع، أو على نحوٍ أدق، كتعبير عن ثقة مفرطة لدى الطوائف والأحزاب في قدرتها على إنعاش النظام (السيستام) الذي بلغ التشكيك في أهليته خلال الأشهر الماضية حدّه الأقصى.
إقرأ أيضاً: تقاتل المرشّحين الموارنة فوق أنقاض الجمهورية
فـ”اللقاء الأرثوذكسي” تحدّث عن شعور الأرثوذكس بـ”الاستضعاف والحرمان” في الإدارة، وذلك بعد أقلّ من خمسة أشهر على نزول عشرات آلاف اللبنانيين إلى الشوارع للمطالبة بإسقاط “نظام المحاصصة الطائفية والسياسيّة”، ويحمّلونه مسؤولية الانهيار الحاصل. بينما أعاد فرنجية في مؤتمره الصحافي إنتاج معاني الزعامة التقليدية على نحوٍ يجعل التشكيكَ في ديمومة النموذج التاريخي للنظام السياسي اللبناني منذ إرساء نظام المتصرفية صعباً جداً بل مستحيلاً.
والحال هذه، فقد استخدم زعيم “المردة” كلّ الأدوات السياسيّة الموروثة من التاريخ السياسي للزعامات التقليدية اللبنانية، لاسيّما لجهة ظهور الزعيم بمظهر الوفي والحامي لـ”ناسه”، وتخييره الخصوم بين “الحرب والسلم” مع إبدائه الاستعداد لكلا الخيارين، مع ما يحمله هذان التخيير والاستعداد من معاني “الفروسية”، ثمّ تأكيده على احترام القضاء ولكن تشكيكه في الوقت نفسه باستقلاليته واتّهام السلطة الحاكمة بتسييسه.
ولعلّ فرنجية هو السياسي الأقدر في الوسط السياسي المسيحي على تكرار هذا السيناريو الزعاماتي. فهو سليل إحدى العائلات السياسيّة الخمس في مدينة زغرتا المارونية، والتي (أي هذه العائلات) أسّست نظاماً عائلياً / سياسياً في المدينة استطاع أن يصمد حتّى اليوم بالرغم من كلّ التطوّرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها زغرتا. وذلك بخلاف بقيّة الجغرافية السياسية المسيحية في جبل لبنان حيث انهارت معظم العائلات السياسية، وأمّا من بقي منها فهو يبحث عن شرعيّات سياسيّة خارج النظام العائلي/ السياسي القديم.
لذلك فإنّ رئيس “المردة”، وبالنظر إلى تعريفه السياسي / الجغرافي، يبدو أقلّ السياسيّين اضطراراً إلى مراجعة لغته و”تحديث” تقنياته السياسية، وإن كانت الأنماط الجديدة للسياسة اللبنانية بعد العام 2005، قد أجبرت فرنجية، لاسيّما لجهة “تطوّر” العمل الحزبي في الوسط المسيحي، على “تحديث” “المردة”. وهو في الأصل تنظيم عسكري / عائلي أنشأه الرئيس الراحل سليمان فرنجية خلال تولّيه رئاسة الجمهورية على غرار التنظيمات شبه العسكرية التي ملأت الجغرافيا اللبنانية وقتذاك.
إذّاك، يصعب فهم “ظاهرة” سليمان فرنجية خارج الإطار التاريخي والسياسي الذي تستمدّ منه هذه “الظاهرة” شرعيّتها. علماً أنّ التفاعل الشعبي والسياسي معها يظهر وجود ما يشبه التواطؤ الضمني بين “أمزجة” لبنانية مختلفة على قبول هذه “الظاهرة” وتشجيعها، وذلك بالرغم من “تقليديتها” المفرطة إلى حدّ تبدو معه كأنّها تسير بعكس “تقدّم” المجتمع، وهو ما يضع مسألة “تقدّم” المجتمع نفسها موضع التساؤل. لكن في محصّلة الأمر، فإنّ شروط اللعبة السياسيّة ما تزال عاملاً أساسياً في تحديد خيارات المجتمع وأولوياته. ولذلك فإنّ فرنجية، بتموضعه السياسي ضدّ العهد، والجغرافي في الشمال جاراً للنائب جبران باسيل، وبالنظر إلى حضور زغرتا وعائلة فرنجية التاريخي في ذاك الشمال المسيحي، كلّ ذلك يعزّز موقعه السياسي ويسلّط الضوء عليه.
زغرتا، “الشمال” والبترون
يذكر كمال الصليبي في كتابه “تاريخ لبنان الحديث” أنّ “موارنة البترون وبشري في الشمال قد رفضوا، بدافع ولائهم لذكرى يوسف كرم، أن يتعاونوا بكلّ قلوبهم مع المتصرفية، بعكس مواطنيهم في الجنوب، من نصارى ودروز، الذين حافظوا على صلة سياسية دائمة مع المتصرفين”. وكان كرم الذي عّين في العام 1860 في القائمقامية المسيحية خلفاً لبشير أبي اللمع قد أمل في أن تسند إليه حاكمية لبنان كلّه، لكنّ أمله هذا خاب، وآل به المطاف بعد عصيانه سلطة المتصرف إلى المنفى في إيطاليا حيث مات.
ويمكن الاستناد إلى هذه الرواية لاستنتاج أمرين: أوّلهما، أنّ نفوذ الزعامة العائلية الزغرتاوية كان، ومنذ أيّام يوسف كرم، ذا امتداد جغرافي يتجاوز حدود زغرتا / إهدن، وثانيهما أنّ هذه الزعامة كانت تصبو دائماً إلى حكم لبنان. وهذان أمران يؤكدّهما سياق الأحداث السياسية في زغرتا والشمال الماروني عموماً. حتّى إنّ الصراع السياسي بين العائلات الزغرتاوية ما كان محفزّه الأساسي حكم زغرتا وحسب، بل إنّ هذا الصراع كان متصلاً بشكل محكم بالتنافس على حكم لبنان من خلال تولّي أحد أبناء هذه العائلات، أو أحد حلفائها، رئاسة الجمهورية. ولعلّ الاقتتال العائلي في زغرتا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والذي قسّم المدينة بين شرقية وغربية وأودى بحياة عشرات الأشخاص، أبلغ دليل على طبيعة الصراع السياسي فيها، إذ كان التنافس الحادّ بين الرئيس كميل شمعون والسياسي الزغرتاوي البارز حميد فرنجية والمرشح “القوي” لرئاسة الجمهورية وقتذاك، السبب السياسي المباشر لتلك الأحداث المأسوية.
وفي العام 1970 كان انتخاب سليمان فرنجية، شقيق حميد، رئيساً للجمهورية، إيذاناً باستئناف الزعامة الزعرتاوية توسعة نفوذها في الشمال المسيحي، وصولاً، بالحدّ الأدنى، إلى مدينة البترون بوابة الشمال السياسية لجهة الجنوب. أي لجهة محافظة جبل لبنان معقل الأحزاب المسيحية التقليدية، التي لطالما كان بينها وبين الزعامة الزغرتاوية تنافس حاد ودموي أحياناً، أدّى، من بين أسباب أخرى، إلى “مجزرة” إهدن في العام 1979، بعدما انسحب سليمان فرنجية من “الجبهة اللبنانية”، بسبب خلافه مع أحزابها على “الدور السوري في لبنان”، وقد حصلت في أعقاب انسحابه هذا حوادث متفاوتة العنف بين أنصار الفريقين في الشمال المسيحي.
لعلّ بلوغ الاحتدام السياسي بين فرنجية وعون / باسيل حدّه الأقصى يستعيد بالمعنى السياسي حقبة انفراط التحالف هذا، والذي رتّب أوضاعاً سياسية وعسكرية جديدة في الشمال المسيحي
وإذا كانت البترون، بهذا المعنى، قد شكّلت تاريخياً خطوط تماس سياسيّة بين زغرتا بزعامتها العائلية والجبل بأحزابه، فإنّ الحاضر لا يزال يحتفظ، بطبيعة الحال، ببعض السمات التاريخية للصراع السياسي في الشمال الماروني. فأن يرأس جبران باسيل، ابن البترون، أكبر الأحزاب المسيحية، راهناً، فهذا ليس بالأمر الهيّن بالنسبة للزعامة الزغرتاوية، خصوصاً أن باسيل يلعب لعبة معكوسة، أي أنّه يسعى لتوسعة نفوذه نحو الشمال وتحديداً نحو زغرتا مفرطة الحساسية تجاه الأحزاب. هذا فضلاً عن أنّ باسيل مرشّح إلى رئاسة الجمهورية، تلك الرئاسة التي أوشك فرنجية في العام 2015 أن يفوز بها، لولا تمسّك العماد ميشال عون بأحقيّته بها كرئيس أكبر حزب مسيحي. وقد كظم زعيم “المردة” على غيظه طيلة تلك السنوات إلى أن “ثأر”، الإثنين، من حليفيه اللدودين في “الخطّ”، عون وباسيل، إيذاناً منه باستئناف أقوى لمعركة رئاسة الجمهورية، بعدما كانت قد بدأت في الشمال منذ الانتخابات النيابية في العام 2018، حين تنافس ثلاثة مرشحين رئاسيين، هم إلى باسيل وفرنجية، سمير جعجع رئيس حزب “القوات اللبنانية” الذي تصالح في تشرين الثاني من العام نفسه مع رئيس “المردة”، وذلك بعد 40 سنة من العداء على خلفية اتهام فرنجية لجعجع بقتل عائلته. وللمفارقة فإنّ تلفزيون “أو تي في OTV”، إعلام “التيار الوطني الحر” عموماً كان يصرّ بشدّة، طيلة سنوات الانقسام بين فريقي 8 و14 آذار، على التذكير بهذه الجريمة السياسيّة واتهام جعجع بها.
“الحرب” تحت عباءة “حزب الله”
لقد سعى “حزب الله”، طيلة الفترة الماضية، إلى “تبريد” اللعبة السياسية إلى أقصى حدود ممكنة بغية تأمين مناخ سياسي مؤاتٍ لعمل حكومة حسّان دياب التي جاءت انعكاساً لتوازنات سياسيّة تظهر اتساع نفوذ الحزب في الحكم. فإذا به يصطدم بانفجار الخلاف داخل بيته السياسي بين حليفيه باسيل وفرنجية. وإذا كان الحزب قد استطاع طيلة السنوات الماضية إدارة صراع النفوذ بين حليفيه هذين، فإنّ التشكيك بديمومة قدرته على تطويق هذا الصراع لهو تشكيك مشروع بعدما “بات متعذّراً ضبط ما كان حتّى الآن مكبوتاً” بين الحليفين اللدودين، إذا ما استعرنا عبارة سمير قصير لتوصيف مرحلة ما بعد انفراط تحالف الرئيس فرنجية مع “الجبهة اللبنانية”.
ولعلّ بلوغ الاحتدام السياسي بين فرنجية وعون / باسيل حدّه الأقصى يستعيد بالمعنى السياسي حقبة انفراط التحالف هذا، والذي رتّب أوضاعاً سياسية وعسكرية جديدة في الشمال المسيحي. وإذا كانت تداعيات الشِقاق المسيحي ضمن تحالف “8 آذار” لن تتجاوز، في الغالب الأعمّ، حدودها السياسية، فهي تؤسس لمرحلة سياسيّة جديدة في الشمال المسيحي، بعد أن تحوّل حلبة رئيسية للتنافس بين فرنجية وباسيل على رئاسة الجمهورية. ذلك مع العلم أن تحالف عون مع قوى “8 آذار” منذ العام 2006، أمنّ غطاء سياسياً لفرنجية أحد أبرز حلفاء سوريا في “زمن الوصاية”، في وقت كانت الغالبية العظمى من المسيحيين تناوئ وجود القوات السورية في لبنان. كذلك ثمّة لاعب سياسي ورئاسي ثالث في الشمال، أي سمير جعجع. وقد كان لافتاً الإرباك “القواتي” في التعاطي مع مؤتمر فرنجية، فمن جهة رأت فيه “القوات” تشكيكاً إضافياً في صدقية العهد وباسيل غريميهما، ومن جهة ثانية رفع رئيس “المردة” سقف المواجهة مع الأخيرين إلى حدود “فضحت” معارضة “القوات” لهما.
وفي المحصلة، فإنّ الصراع المفتوح بين فرنجية / باسيل أعاد التأكيد على السنن التاريخية في السياسية اللبنانية والمارونية تحديداً. فلكأنّ التاريخ لا يني يعيد نفسه في هذا الجبل على الرغم من تبدّل أوضاعه كما الأحوال من حوله على نحوٍ دراماتيكي… وأمام واقع كهذا يبدو “حزب الله” بالرغم من كلّ نفوذه السياسي والعسكري، طارئاً على السياسة اللبنانية وعاجزاً عن مداراتها.