صراع بين مشروعين: هل تيأس السعوديّة من الواقع اللبنانيّ؟

مدة القراءة 8 د


من قصر النظر اعتبار أنّ سياق تحذير دول الخليج لرعاياها في لبنان يرتبط بأحداث عين الحلوة حصراً زمانياً ومكانياً. ومن سوء التقدير اعتبار التحذير تذرّعاً بالأحداث الأمنيّة لتصفية حسابات سياسية. ممّا لا شكّ فيه أنّ التحذيرات تشكّل نوعاً من الضغط السياسي على القوى السياسية اللبنانية وعلى الدول المعنيّة بالملفّ اللبناني التي ما تزال تركن إلى مقاربات تتجاوز ما جرى الاتفاق عليه في اجتماع الدوحة الخماسي، علماً أنّه في الاجتماع طُرحت مسألة اتّخاذ إجراءات لمنع السفر إلى لبنان لكن تمّ تأجيل بتّها. صورة أحداث عين الحلوة لها أبعاد غير منظورة تتّصل بمساعٍ واضحة لتعطيل الاتفاق السعودي الإيراني، وبإعادة رسم مشهد جديد في الإقليم. ولا تنفصل الأحداث عن انسداد إقليمي مشهود من اليمن إلى حقل الدرّة فسوريا فلبنان.
تؤكّد كلّ هذه التطوّرات وجود اتجاهات متعدّدة في إيران، بعضها يرفض المضيّ قدماً في الاتفاق ويسعى إلى تخريبه وصولاً إلى التنصّل منه كما تبثّ وسائل إعلامية إيرانية نقلاً عن مسؤولين من خلال تصريحات تفيد بأنّ الاتفاق كان محصوراً بالعلاقات الثنائية بين البلدين وإعادة فتح السفارات، ولم يتحدّث عن الملفّات الإقليمية، وهذا بحدّ ذاته يُعتبر تراجعاً إيرانياً أو تخريباً يتناقض كليّاً مع مضمون البيانات الختامية للاجتماعات التي عُقدت في الصين وأشارت إلى ترتيب الوضع الإقليمي واحترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها.

الصورة كاملة
لا بدّ من قراءة الصورة بمنظورها الأوسع. على وقع الاتفاق، وبعد تعثّر المفاوضات الأميركية الإيرانية حول الملفّ النووي، كثّفت الولايات المتحدة الأميركية لقاءاتها ومحاولات تقاربها مع المملكة العربية السعودية، وصولاً إلى تقديم عرض أميركي شامل يتضمّن تأسيس مشروع نووي سلميّ سعودي والدخول في اتفاقية أمنيّة وعسكرية لمدّة 45 عاماً في مقابل التطبيع مع إسرائيل. اشترطت السعودية أن يتمّ تحقيق مندرجات المبادرة العربية للسلام التي تقدّمت بها السعودية سابقاً وتنصّ على إنشاء دولة فلسطينية. استفزّ هذا الحراك على الخطّ الأميركي السعودي الإيرانيين الذين أرادوا التصعيد في مجالات مختلفة، من اليمن إلى حقل الدرّة فسوريا وصولاً إلى مخيّم عين الحلوة. ولذلك ارتبطت التحذيرات الخليجية للرعايا بمحاولة تخريب المصالحة الفلسطينية انطلاقاً من عين الحلوة لِما لها من دلالات أمنيّة وعسكرية وسياسية.

يثبت لبنان مجدّداً أنّه ساحة تلقّي وانعكاس للتطوّرات الإقليمية، وميدان تبادل رسائل بين القوى المتخاصمة، وهو ما يمتدّ من الحدود الجنوبية الدائمة التوتّر بين الحزب وإسرائيل، مروراً بمخيّم عين الحلوة

جاءت أحداث المخيّم بالتزامن مع اجتماع الفصائل الفلسطينية في مصر لإبرام اتفاق فيما بينها، الذي قاطعته حركة الجهاد الإسلامي على وقع معلومات تفيد بأنّ هناك تبايناً في الآراء بين حركتَي حماس والجهاد، ولا سيما أنّ هناك من ينظر إلى موقف “حماس” بأنّه خروج على مبدأ وحدة الساحات. وكانت المساعي إلى عقد مصالحة فلسطينية بدأتها المملكة العربية السعودية حين استضافت الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووفداً كبيراً من حركة حماس قبل فترة. والرياض هي التي عملت على تعزيز التواصل في سبيل المصالحة والذهاب إلى موقف فلسطيني موحّد. لذا كان للاشتباكات في عين الحلوة أكثر من هدف: أوّلاً ضرب حركة فتح في سياق المشروع المعروف لسيطرة حلفاء إيران على المخيّمات، وثانياً تأديب حركة حماس بتوجيه ضربة إلى حركة فتح. هذا من حيث المعنى السياسي.
بالمعيارين الأمنيّ والميدانيّ، سبق الاشتباكات واغتيال أبي أشرف العرموشي حدثان: الأول دخول عناصر مطلوبة من الدولة اللبنانية إلى المخيّم، من بينهم مسؤولون عن تنظيمات إرهابية أو متطرّفة، مثل بلال بدر وعيسى الحمد. وإدخالهم بحدّ ذاته كان يمكن الاستنتاج منه سريعاً أنّ الإعداد لأحداث أمنيّة قائم، وأنّ عودتهم تمثّل استفزازاً لحركة فتح التي طردتهم سابقاً. الثاني خوض الحزب مفاوضات مع حركة فتح في السفارة الفلسطينية من أجل السماح بعودة رئيس تنظيم أنصار الله جمال سليمان إلى مخيّم الميّة وميّة بعدما تمّ طرده منه في عام 2019 بعد اشتباكات متعدّدة حصلت مع حركة فتح. رفضت “فتح” إعادة جمال سليمان، فبرز اقتراح آخر بالسماح له بالدخول إلى مخيّم الرشيدية، فتكرّر الرفض على قاعدة أنّ سليمان قد يستخدم المخيّم في سبيل إطلاق صواريخ باتجاه الأراضي المحتلّة عندما تدعو الحاجة.

ماذا حصل على المسار السوريّ؟
بعيداً عن هذه التفاصيل، وبالعودة إلى الصورة الإقليمية، حصل تقارب بين الرياض ودمشق على وقع الاتفاق الإيراني السعودي وعادت سوريا إلى الجامعة العربية، وكان لا بدّ من متابعة مسار التقارب وفق قاعدة خطوة مقابل خطوة. وتبيّن لاحقاً أنّ النظام السوري لم يلتزم بأيّ من التعهّدات التي قدّمها على صعيد المكافحة الجدّية لتهريب المخدّرات، وعلى صعيد البحث في الحلّ السياسي وإطلاق سراح المعتقلين، وفي ملفّ إعادة اللاجئين، ولا سيّما أنّ زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الأخيرة لدمشق لم تكن ناجحة، إذ إنّ الأسد طالب بمساعدات ماليّة مسبقة ومشاريع لإعادة الإعمار تسبق عودة اللاجئين، وهو ما أثبت القاعدة الابتزازية التي يتعاطى بها النظام السوري.
في الموازاة، كانت تدور مفاوضات أميركية سورية في سلطنة عمان، وفي العاصمة الأردنية عمّان، لكن توقّفت فجأة، علماً أنّها كانت تتعلّق بإطلاق سراح رهائن أميركيين في سوريا وبنود أخرى، حين رفع الأسد مطالبه مشترطاً على الأميركيين الانسحاب من شرق سوريا وبعدها يستكمل مفاوضاته معهم، وذلك انسجاماً مع مؤشّرات التصعيد الإيراني. جاء ذلك بالتزامن مع تحشيد عسكري قامت به إيران وحلفاؤها باتجاه شرق سوريا، والإعداد لتحرّكات شعبية أو عسكرية للضغط على الأميركيين واستهداف مواقع لهم تحت شعار المطالبة بالانسحاب، فعزّز الأميركيون وجودهم وقطعوا الطريق الواصل بين الحدود العراقية والحدود السورية.

لا تنفصل هذه التطوّرات عن تعثّر مسار التقارب السعودي السوري، الذي لم يكن يحظى بحماسة أميركية، بعد أن لم يلتزم نظام دمشق بما يتوجّب عليه الإيفاء به، وأبلغت الرياض دمشق بوقف مسار افتتاح السفارة السعودية في الشام وعدم تعيين سفير، وبوقف العمل في السفارة السورية في الرياض وعدم الحاجة إلى تعيين سفير.

شباب وحدة الساحات
أمام هذه الوقائع، يثبت لبنان مجدّداً أنّه ساحة تلقّي وانعكاس للتطوّرات الإقليمية، وميدان تبادل رسائل بين القوى المتخاصمة، وهو ما يمتدّ من الحدود الجنوبية الدائمة التوتّر بين الحزب وإسرائيل، مروراً بمخيّم عين الحلوة، وصولاً إلى الاشتداد السياسي حول الانتخابات الرئاسية، وتمسّك الحزب بمرشّحه ومحاولته المستمرّة لاستقطاب جبران باسيل في محاولة لإعادة إحياء الانقسام العمودي. استعادة باسيل ومحاولة ترئيس سليمان فرنجية لا يمكن أن تمرّا بدون مسار الحزب المستمرّ في تحقيق الخروقات داخل كلّ المجتمعات والبيئات اللبنانية المختلفة. وتبقى إحدى أبرز الساحات المستهدَفة هي الساحة السنّية التي لا يوجد فيها مشروع ريادي أو سياسي أو سيادي، إنّما يتآكلها الفراغ الذي يحتاج إلى من يملأه.
في هذا الصدد، يعمل الحزب على تأسيس مجموعة جديدة مشابهة لسرايا المقاومة، يطلق عليها اسم “شباب وحدة الساحات”، من شأنها استقطاب شبّان من طوائف مختلفة، ولا سيما من الطائفتين السنّية والدرزية وبعض المسيحيين. وهذا مسار ظهر في نقطتين: الأولى مجالس عاشوراء ومضافاتها، إذ تعمّد الحزب تصوير مسيحيّين وسُنّة يقيمون المضافات على “حبّ الحسين”. والثانية في محاولة إظهار التلاحم السنّيّ الشيعي تحت راية “جيش وشعب ومقاومة” على الحدود الجنوبية وفي بلدة كفرشوبا بالتحديد، من خلال التلاقي على مطالبة العدوّ الإسرائيلي بالانسحاب من الأراضي المحتلّة، وصولاً إلى أداء صلاة الجمعة بإمامة مفتي المنطقة. وهو النموذج الذي يريد الحزب تعميمه في مناطق مختلفة، لن تكون آخرها محافظة عكّار التي يستمرّ الحزب في تقديم الكثير من المساعدات لها في مجالات طبية وصحّية ومالية وغذائية، وعبر توزيع المحروقات. وكانت محطة جديدة للحزب ولممثّلين شخصيين للأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في عكار قبل أيام قليلة استُقبلوا فيها بنثر الأرزّ والطبل والزمر.

إقرأ أيضاً: الخماسيّة القطريّة تقرّ الخريطة السعوديّة للبنان..

هذا يقود إلى خلاصة من اثنتين: إمّا الاستسلام الكامل لمبدأ سيطرة الحزب على البلاد مؤسّساتياً واجتماعياً من خلال مسار واضح تجلّى في ما حدث لمنصب حاكمية مصرف لبنان، وفي ما سيكون في قيادة الجيش، وهو ما سيؤدّي إلى استرجاعه المسيحيين الذين يبحثون عن تسوية تعيد لهم مواقعهم، وهو ما يحصل مع السُّنّة بالمعنى السياسي، الاجتماعي، والمؤسّساتي، لا سيما لدى الوصول إلى لحظة انتهاء ولاية المدير العام لقوى الأمن الداخلي ومواقع أخرى. وهذا سيجعل دول الخليج وتحديداً السعودية في حالة يأس من الواقع اللبناني، وإمّا يقود إلى ولادة مشروع سياسي محتضَن إقليمياً وعربياً من شأنه استعادة التوازن، لكنّ شروطه الأولى تتجلّى في الخروج من حالة التخلّي.

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…