دائماً ما كان للقضية الفلسطينية حيّز خاص في الوجدان السنّيّ. ولطالما جرى تعيير السنّة بنقص في لبنانيّتهم لأنّهم كانوا يناصرون ياسر عرفات على حساب سيادة وطنهم، حسب افتراض القائلين بذلك، في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي. وذلك قبل أن يأتي رفيق الحريري ويعيد بناء بيروت ولبنان. ثم ليستشهد ويرفع السنّة شعار “لبنان أوّلاً” مع نجله سعد. في إعلان “لبنانيتهم” النهائية منذ العام 2005.
لكن على الرغم من كلّ التطوّرات السياسية في العقود الماضية، بقي هذا الحيّز محجوزاً لقضية عنوانها القدس الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”، على ما ردّد أبو عمار في نهاية حياته، ومسرى النبي محمّد في معراجه إلى السماء.
إلا أنّ مساعي إيران الحثيثة، ومن خلفها أذرعها الطويلة، وخاصة الحزب في لبنان وسوريا وغيرهما، للقبض على القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى ورقة على طاولة السياسات الإقليمية، زرعت الريبة والشكوك في دواخل السُّنّة، ولا سيما بعدما خبروا استثمار الحزب لانتصار عام 2006 في شوارع بيروت ذات 7 أيار 2008، إضافة إلى مآثر الميليشيات الإيرانية في قتل الثورة السورية وإغراق سُنّتها في بحور من الدماء والتهجير والمعتقلات. لذلك بدت ردّة الفعل السنّية على “طوفان الأقصى” حذرة جدّاً على الصعيد النخبوي، مقابل فرحة شعبية لم تخلُ من هذه الشكوك المنغّصة.
دائماً ما كان للقضية الفلسطينية حيّز خاص في الوجدان السنّيّ. ولطالما جرى تعيير السنّة بنقص في لبنانيّتهم لأنّهم كانوا يناصرون ياسر عرفات على حساب سيادة وطنهم، حسب افتراض القائلين بذلك
فلسطين.. قضيّة السُّنّة
مناصرة السُّنّة للقضية الفلسطينية قديمة جدّاً، إذ بدأت منذ ما قبل النكبة الفلسطينية عام 1948، حينما سار المناضل العروبي الطرابلسي فوزي القاووقجي إلى فلسطين عام 1936 للمشاركة في الثورة العربية ضدّ الانتداب البريطاني من أجل إيقاف الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين. ثمّ تولّى قيادة جيش الإنقاذ العربي عام 1947 لقتال العصابات الصهيونية التي أسّست فيما بعد دولة إسرائيل.
إلى ذلك، تحفل الذاكرة السنّيّة بالهبّات الشعبية الفلسطينية الهوى، والتظاهرات التي ترفرف فيها أعلام فلسطين غداة كلّ حفلة إجرام صهيونية. حتى عندما صار جمال عبد الناصر فارس العرب، كانت فلسطين وصراعه مع إسرائيل جواز عبوره إلى قلوب سُنّة لبنان حيث حظي بشعبية جارفة في لبنان والعالم العربي. ومن أجل فلسطين وافق قادة لبنان السنّة على اتفاق القاهرة في 1969، الذي مهّد للاجتياحات الإسرائيلية وللتوغّل الفلسطيني في الداخل اللبناني، وللحروب الأهلية الملبننة.
ومن أجل فلسطين، أوسع السُّنّة المقام لأبي عمّار وصحبه، وتحمّلوا القصف الإسرائيلي لمدنهم وبيوتهم وصولاً إلى اجتياح بيروت في 1982. مع ذلك، لم يتخلّوا لحظة عن دعم حركة فتح وقائدها ياسر عرفات. بل احتشدوا في وداعه مع أبرز زعمائهم في مرفأ بيروت مثل الرئيس صائب سلام ورئيس الحكومة آنذاك شفيق الوزّان وقيادات كثيرة.
عندما عاد في 1983 على حين غفلة من الرقيبين الإسرائيلي والسوري الأسدي، فتحت مدينة طرابلس أذرعها لاحتضانه في أحيائها وشوارعها كواحد من أبنائها، ومذّاك تحمّلت من أجل القضية الفلسطينية كراهية حافظ الأسد وجيشه التي فتحت عليها أبواب الجحيم فيما بعد. وفي العهد السوري، بقيت القضية الفلسطينية حيّة في الوجدان السنّيّ، ولم تنجح خزعبلات بعض العقول الأمنيّة في إقناع السُّنّة بتصديق كذبة “أبي عدس” واتهامه باغتيال رفيق الحريري/ لإشعال فتنة بينهم وبين الفلسطينيين.
ما ينطبق على سُنّة لبنان، ينطبق أيضاً على الوطن العربي. قال الناشط السياسي خلدون الشريف في حديث إلى “أساس”: “ثمّة استطلاع رأي نشره الباحث الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله يقول إنّ 82% من شعب مصر يعتبر أنّ ما قام به الفلسطينيون هو أمر مشروع. وأنا أعتبر أنّه بعد قهر وإذلال بدآ عام 2008، وازداد في السنة الأخيرة بعد تسلّم نتانياهو واليمين المتطرف الحكم وقتل المستوطنين وقوات الأمن الإسرائيلية 240 فلسطينياً، لا يستطيع أيّ عربي بل أيّ إنسان أن لا يتعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي يعيش مليونان منه في سجن محكم”.
امتنعت مصادر دار الفتوى في طرابلس عن التعليق على إمكانية انزلاق لبنان نحو الحرب، لكنّ المناخ العامّ في لبنان لا عند السُّنّة فقط لا يريد الحرب، “فهي ليست لعبة، ولا قِبل لنا في تحمّلها
مآثر الحزب
بيد أنّ ما فعله الحزب إثر حرب تموز 2006 حفر جرحاً عميقاً في الوجدان السنّيّ. فما كادت الحرب تضع أوزارها بقرار أممي سعى خلفه الحزب حثيثاً، ولم تكن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لتنجح في انتزاعه لولا معاونة ودعم عواصم الخليج، حتى قلَب لهم ظهر المجنّ وأنزل جمهوره للاعتصام بوسط بيروت في 2007، بغية إسقاط الحكومة التي نتجت عن “التحالف الرباعي بعد انتخابات 2005. وعندما فشل الحزب دخل بسلاحه إلى عمق المناطق الشعبية في بيروت في 7 أيّار 2008، التي تشارَك مع سُنّتها لسنوات خلت المأكل والمعيشة إبّان القصف الإسرائيلي. ثمّ أتبع ذلك بدخول دمويّ إلى دمشق دفاعاً عن طاغيتها في 2011 و2012 وصولاً إلى اليوم. فاكتسب الحزب، ومن خلفه إيران، نفوراً سنّيّاً طال أيضاً الفصائل الفلسطينية المتحالفة مع طهران على الرغم من كلّ مبرّراتها.
هذا ما بدا واضحاً في ردّة الفعل على عملية “طوفان الأقصى”، وما تلاها من ردّ إسرائيلي ينحو صوب إبادة غزّة وأهلها. كثر احتفلوا بالطوفان، على الأرض، وفي عوالم شبكات التواصل، لكنّ الشكّ في نوايا إيران، وإمكانية تكرار ما فعله الحزب عام 2006 إنّما في الداخل الفلسطيني، وربما إمكانية استثمار الانتصار الفلسطيني في لبنان أيضاً، نغّصا الفرحة، ودفعا ببعض الفئات إلى الإحجام عن الفرح أو الاقتضاب فيه.
هو صراع ما بين القلب والعقل. فالقلوب مع القضية الفلسطينية وشعبها، والعقل الجمعي غارق في رسم السيناريوهات السياسية والحسابات الإيرانية. وفي هذا الشأن اعتبر الشريف أنّ “اللحظة الآن هي للتضامن مع الشعب الفلسطيني حتى يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في السياسة”.
تجلّى هذا التضامن في وقفات رمزية وموقف متقدّم لمفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان الذي تميّز عن كلّ القيادات السنّية بإصدار بيان داعم للشعب الفلسطيني خلا من أيّ إشارة إلى “حماس” ليس لأسباب سياسية، بل لأنّ الدعم هو للشعب الفلسطيني وحقوقه السليبة.
واعتبرت مصادر مقرّبة من مفتي طرابلس والشمال محمد إمام أنّ “دعم الشعب الفلسطيني هو واجب على كلّ مسلم، والدعاء هو أقلّ الواجب، وهذا ما نستطيع أن نقدّمه، وهنا ينتهي دورنا، وأمّا السياسة فلها أهلها”.
الخوف من الحرب
دفعت الحسابات السياسية لِما بعد “الطوفان” بالنخب السنّيّة إلى الحذر الشديد، والامتناع عن التعليق أو الإسراف في الكلام السياسي، ما خلا بعض حلفاء الحزب. وحتى مَن علّق من بينهم أو أبدى رأياً، صاغ مصطلحاته بدقّة شديدة وفق “ميزان الجوهرجي”.
لا ينبع ذلك من التخوّف من حسابات الحزب وإيران فقط، بل أيضاً بسبب الرغبة في عدم جرّ لبنان إلى أتون حرب لا قِبل له بها، ولا سيّما مع تطوّرات الجبهة الجنوبية التي تنحو صوب الانفجار.
عام 2006، كان لدى لبنان بعض المقدّرات والإمكانيات للصمود وإزالة آثار الخراب. أمّا اليوم فلا قدرات، ومؤسّسات الدولة مفكّكة، والدول العربية والخليجية التي دعمتنا بسخاء وأمدّتنا بكلّ ما نحتاج إليه تنظر إلى بيروت بعين الريبة منذ انقلاب الحزب على حكومة الرئيس سعد الحريري عام 2011. ومع أنّها لم تقفل الباب أمام استعادة لبنان فرداً من العائلة، إلا أنّها تريد من هذا الابن “المغناج” التوقّف عن العبث غير الواعي، والالتزام بمصالح العائلة، وما فتئت تنتظر عودته إلى رشده بصبر جليل.
إقرأ أيضاً: خاصّ “أساس”: تدرّبوا في إيران.. وعبروا “تحت الأرض”.. وأونلاين
وختم السياسي خلدون الشريف: “أعتقد جازماً أنّ اللبنانيين بكلّ فئاتهم وطوائفهم لا يرغبون بانزلاق لبنان نحو حرب مدمّرة. لكنّ هذا الأمر مرهون بالميدان من جهة، وبجبهة وحدة الساحات من جهة أخرى”.
من جهتها امتنعت مصادر دار الفتوى في طرابلس عن التعليق على إمكانية انزلاق لبنان نحو الحرب، لكنّ المناخ العامّ في لبنان لا عند السُّنّة فقط لا يريد الحرب، “فهي ليست لعبة، ولا قِبل لنا في تحمّلها، خاصة أنّها قد تتحوّل إلى حرب إقليمية طويلة الأمد وعميقة الأثر”، على حدّ تعبير ضبّاط متقاعدين وآخرين من روّاد المقاهي لا سيرة لهم إلّا الحدث في فلسطين.. والحزب.