أخذني حديث رياض سلامة عن ثروته وإرثه العائلي إلى أول قصر شاهدته في حياتي. أخذني إليه صغيراً زوج عمتي وكان بستانياً يُعنى بالشتول والزهور، ولم يكن هناك قصر غيره يطلّ على الطريق بين بيروت وجبيل في النصف الثاني من الستينيات. أذكر أني دخلت حديقته مرتعشاً لفرط جمال مزيج رائع، من ألوان الورود وبساط العشب الأخضر، والقناطر وجدران الحجر الأصفر المقصّب، ومن عبق زهر الليمون يدوّخ العابر بإنطلياس – النقاش ربيع تلك الأيام، وهدير موج البحر يفقش قبالة القصر في موازاة طريق تتسع لسيارتين، فيما صيادون يشدّون شباكهم، وناس ينتظرون ليشتروا بعد فرز الغلّة سمكاً يفرفر.
غاب شاطئ الرمل الذهبي وابتعد البحر، والطريق الرومانسي صار أوتوستراداً واسعاً في الاتجاهين، وأكل العشب العالي الحديقة وتطاول على قصر طوبيا باز سلامة، “الخواجة طوبيا” كما كانوا يسمّونه. ما عاد القصر يلفت المارة، لكنه بقي معلّقاً في الذاكرة، مثل قصر آل عياش الأبعد فوقه على طريق النقاش – الرابية، حيث حاولوا اغتيال الوزير إلياس المر. وكانت في أشجار جنينته الكبيرة بيوت ملوّنة لعصافير ملوّنة تزقزق وتُذهل ولداً لم يكن مضى زمن طويل على مجيئه إلى ذلك العالم الجميل آنذاك، والذي سيصاب بالجنون لاحقاً. سيموت قصر سلامة قضاء وقدراً مثل المربي خالد مورا، الذي عبر بسيارته بين موكب إلياس المر والمتفجرة المركونة أمام سور قصر عياش، وستهجره العصافير الملوّنة ولا ترجع.
إقرأ أيضاً: خدّام الذي جلس يوماً في ساحة الشهداء وبكى
الأرجح بفعل ذكرى زيارة القصر الجميلة، وعلى مدى سنوات، كان ينتابني فضول أحياناً عندما ألتقي أحد أبناء تلك المنطقة، فأسأل بلا سبب عن القصر الذي حفظت اسم صاحبه: طوبيا باز، أو طوبيا باز سلامة، أو “الخواجة طوبيا”. أذكر أنّه قيل لي عند تعيين رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، إنّه من إنطلياس، وإن أملاك عائلته شاسعة في مزرعة كفرذبيان والنقاش، وعمّه صاحب القصر الأصفر.
يروي كتاب لكميل بطرس سلامة بعنوان “الينبوع – جامعة آل سلامة في لبنان والعالم”، أنّ عائلة حاكم المصرف المركزي انتقلت من مزرعة كفرذبيان، البلدة الجردية الكسروانية، إلى إنطلياس حوالي العام 1850، زمن القائمقاميتين وحكم الأمير حيدر أبي اللمع. ويوضح أنّ خلافاً وقع بين جدّ العائلة، وكان اسمه “إلياس”، وأحد المشايخ، حمله وعائلته على الانتقال إلى إنطلياس حيث تدبّر عملاً واستأجر منزلاً في محلة القبيزة يؤويه وزوجته وولديه، باز وزعيتر الذي توفي عازباً. في التاريخ المرويّ الذي يصعب التأكد من صحته، أنّ الشيخ الإقطاعي طلب من جدّ العائلة إلياس أن يجتاز به نهراً على ظهره، فانصاع الرجل، لكنّه لسبب ما غيّر رأيه، فأنزل الشيخ وسط النهر وانفتل عائداً إلى الضفة، وغادر كفرذبيان ولم ينظر إلى الخلف.
تلك الأيام قبل الحرب العالمية الأولى، خلالها وبعدها بقليل، كان ما ينتعله الناس في أقدامهم يحدّد مكانتهم وحالتهم
كبر باز سلامة في إنطلياس وتزوج من جميلة سلامة، ابنة كفرذبيان، ورُزقا خمسة صبيان وبنتاً: طوبيا ومنصور وتوفيق (والد الحاكم) وجرجي ويوسف (المطران لاحقاً)، ومرغريت التي ستلتحق بجمعية راهبات الصليب، التي أسسها الراهب يعقوب الكبوشي وجعل مقرّها ديراً على تلة في بقنايا، جارة إنطلياس. ارتدت ثوب الراهبات لكنها لم تُرسم لمعاناتها اضطراباً عائداً إلى حادث تعرّضت له في طفولتها. يُقال إنّها مرضت واعتقد أهلها أنّها فارقت الحياة، ثم أفاقت وسط جنازتها، فأصيبت بذهول رافقها طوال حياتها.
روى لي أحفاد لجيران آل سلامة في إنطلياس، نقلاً عن مرويات لقريبة لهم عمّرت طويلاً وتوفيت منذ زمن بعيد، أنّ أولاد باز سلامة كانوا فقراء. فقراء جداً.. حرام. حُفاة صيفاً شتاء. تلك الأيام قبل الحرب العالمية الأولى، خلالها وبعدها بقليل، كان ما ينتعله الناس في أقدامهم يحدّد مكانتهم وحالتهم.
في العشرينيات من القرن الماضي، ويُقال حوالي سنة 1920، سنة إعلان الجنرال هنري غورو “دولة لبنان الكبير” من قصر الصنوبر، ركب منصور باز سلامة البحر إلى مرسيليا جنوب فرنسا، ومنها إلى مونروفيا في ليبيريا، مقتفياً أثر أعداد كبيرة من الشباب المتنيين في موسم الهجرة الكبيرة إلى أفريقيا. أخبرني أبو الرواية اللبنانية يوسف حبشي الأشقر مرّة أن أبناء بلدته بيت شباب اندفعوا بجنون في موجة هجرة هائلة، بعدما عاد إليها مهاجر إلى أفريقيا كان من عائلة فقيرة، وابتنى له حارة بقرميد على تلّة عالية. من يومها خربت الضيعة، في رأي الأشقر، وحلّ في نفوس أبنائها إله جديد: المال، ومعه الحسد والكبرياء. لكن هذا موضوع آخر. عموماً هاجر أبناء المتن إلى دول أفريقيا. أبناء بكفيا تفرّدوا بالتوجّه إلى مصر.
بالعودة إلى منصور باز. تتعذّر معرفة هل تقصّد الوصول إلى تلك الدولة الأفريقية أو أصعدوه إلى سفينة نقلته إليها، فيما هو يعتقد، لجهله أيّ لغة أجنبية، أنّه ذاهب إلى أرض الفضّة، الأرجنتين، أو إلى أرض الأحلام، أميركا. ربّما على غرار ما حصل لكثيرين من اللبنانيين أنزلتهم السفن في موانئ بلدان غريبة وعلموا لاحقاً أنّهم في القارة السمراء، وبمرور الوقت تكيّفوا وجمعوا فيها ثروات هائلة، أو ماتوا بالملاريا وسواها وانقطعت أخبارهم، أو لم يُعرف عنهم شيء مطلقاً مُذ ابتعدت بهم السفينة عن الشاطئ اللبناني، كما حصل للأمير عبدالله شهاب، والد الرئيس فؤاد شهاب.
ويبدو أن منصور باز أصاب نجاحاً في مونروفيا من بيع الكشّة، المهنة الأولى للبنانيي تلك الحقبة في المهاجر، فانتقل إلى التجارة واستدعى إخوته بعد سنوات، ولحق به طوبيا وتوفيق وجرجي الذي كان انضم إلى الدرك وعمل سائقاً من دون رتبة لأحد الضباط. وأسس الإخوة شركة تجارية باسم “سلامة إخوان” Salameh Brothers تولّى الشؤون القانونية فيها محامٍ أسمر السحنة، هو شاب ليبيري اسمه وليم توبمان William Tubman، تستهويه السياسة. سوف يصير مطلع عام 1944، في شكل مباغت، وبشبه إجماع شعبه في انتخابات ديمقراطية، رئيساً لجمهورية البلاد المترامية الأطراف والقليلة السكان، والتي كان يعتمد اقتصادها على تصنيع المطّاط وتصديره. وسيعلن توبمان الحرب على ألمانيا ودول المحور قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية ليجلس إلى طاولة المغانم. وحكم الدولة التي أسّسها العبيد المحرّرون من الولايات المتحدة الأميركية في شكل ديكتاتوري حتّى وفاته في لندن عام 1971، وقيل إنه أصيب بمسّ في عقله خلال سنواته الأخيرة. في أيّ حال كان له فضل كبير على آل سلامة الذين موّلوا حملته الانتخابية، وعلى ليبيريا التي سعى إلى تحديثها. وقامت سياسته على تشجيع الأجانب على الاستثمار فيها وتأسيس الشركات تنشيطاً للاقتصاد. يروي وزير الخارجية السابق فوزي صلوخ في كتاب مذكّراته أنه عندما كان يطلب لقاء الرئيس توبمان خلال عمله سفيراً في ليبيريا، كان يطلب إليه أن يصطحب معه أحد أفراد عائلة سلامة كي يعرّف عنه.
تُحيل العلاقة بين آل سلامة والرئيس الليبيري توبمان مع اختلاف في التفاصيل طبعاً على سيرة عائلة لبنانية أخرى ولكن في نيجيريا، على الجانب الغربي لأفريقيا أيضاً. خصّص جيلبير شاغوري، ابن مزيارة في قضاء زغرتا، طبقة في مقرّ شركته الضخمة للتجارة والإنشاءات في لاغوس، مكتباً لصديقه قائد الجيش الجنرال ساني أباتشا ،كي ينتقل إليه فور إحالته على التقاعد. لكن الجنرال أباتشا فضّل في اليوم الأخير الانتقال في انقلاب عسكري إلى قصر رئيس الجمهورية عام 1993، واعداً شعبه بالديمقراطية والإصلاح والتغيير، وحكم كما يجب أن يحكم ديكتاتور. وبعدما توفي بذبحة قلبية وقيل بالسُمّ. عام 1998 حُكم على شاغوري، الذي توجّه إلى واشنطن وصادق آل كلينتون، بإعادة ثروة أباتشا إلى البلاد، فأعاد من الجمل أذنه، 80 مليون دولار فقط. وسيكرّر شاغوري دعمه لجنرال آخر ولكن في بلده الأم قبل انتهاء الحرب عام 1990 لينتقل إلى دعم منافس له لاحقاً. كثيرون من اللبنانيين صنعوا ثروات في أفريقيا وغيرها من “بلدان الانتشار” وراودوا السياسة اللبنانية عن أنفسهم ضاربين عيونهم على أعلى المراكز: رئاسة الجمهورية. ولمَ لا؟
لكنّ بعضهم نجح في استيعاب دهاليز السياسة اللبنانية ومعظمهم أخفق. يخطر بالبال ميشال المرّ وهنري صفير وروجيه تمرز وكارلوس غصن وغيرهم. كلّ واحد منهم قصّة طويلة.
غدا في الحلقة الثانية: سيرة عائلة وحاكم (2/2): قصر سلامة الأصفر