رفعَ الرّئيس الأميركيّ جو بايدن “الكارت الأحمر” في وجه حكومة بنيامين نتانياهو.
لم تعُد واشنطن تحت “الصّدمة الأولى” لعمليّة “طوفان الأقصى” التي شنّتها حركة “حماس” فجر السّابع من تشرين الأوّل الماضي. ولم يعُد سيّد البيت الأبيض قادراً على تحمّل تصرّفات الحكومة الإسرائيليّة، التي دعا صراحةً إلى تغييرها وتغيير طريقة عمل رئيسها نتانياهو، ووصفها بـ”الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل”.
هذه الرّسائل الأميركيّة سينقُلها مستشار الأمن القوميّ جايك سوليفان نهاية الأسبوع إلى تل أبيب. يحمل سوليفان في جعبته 14,000 قذيفة للدّبابات الإسرائيليّة، وملفّات تسودها الخلافات الواسعة بين الجانبيْن بشأن الهُدنة و”اليوم الذي يلي الحرب” والأوضاع المُتفجّرة على الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة والأوضاع في البحر الأحمر، حيث كانت ميليشيات الحوثي تستبق زيارته بصاروخ كروز أصابَ ناقلة نفطٍ نرويجيّة في طريقها إلى ميناء أسدود الإسرائيليّ.
رسائل سوليفان قد تتعدّى الأقوال لتصل إلى التلويح بالأفعال. وقد يسعى بايدن قبل حملته الرّئاسيّة لأن يكون نسخة من الرّئيس الأسبق دوايت أيزنهاور الذي أوقفَ المساعدات إلى تل أبيب يومَ رفضَ ديفيد بن غوريون طلباته بشأن الانسحاب من سيناء في 1956.
خلافات استراتيجيّة
خلافاتٌ ليس أولها رفض واشنطن إصرار إسرائيل على إعادة احتلال القطاع وتقويض السلطة الفلسطينية ورفض نتانياهو حلّ الدولتين. وليس آخرها إصرار واشنطن على عدم توسعة نطاق الحرب خصوصاً مع لبنان. وما بينهما صورُ المجازر الإسرائيليّة التي لا تتوقّف من قطاع غزّة، على وقعِ تظاهرات تاريخيّة اجتاحت العواصم الغربيّة منذ أكثر من 60 يوماً.
تصريحات بايدن غير المسبوقة تعني أنّ الخلافات بين الإدارة في واشنطن وحليفتها في تل أبيب تعدّت المسائل “التكتيكية” ووصلت إلى المسائل “الاستراتيجية”.
مصدر الدبلوماسي لـ”أساس”: النّقاش لا يزال في بداياته، ولم ينضج بعد إلى المستوى الذي يسمح بتجديد الهُدنة، لكنّ الأمور تتّجه نحوَ التّوصّل إلى اتفاقٍ جديد
أعلن بايدن صراحةً أنّ حكومة إسرائيل بدأت تفقد الدعم الدوليّ بسبب القصف العشوائي على غزة، كما أنّ الحكومة الحالية “ترفض حلّ الدولتين، وهذا ما لا يمكنهم رفضه”. وهذا ردّ واضح على كلام نتانياهو يوم أمس الثّلاثاء عن “إمكانيّة تغيير إسرائيل للأوضاع القائمة في “يهوذا والسّامرة” (الضّفّة الغربيّة)”.
كلام بايدن لم يكن يتيماً، وإن كانَ وزنه السّياسيّ كافياً. إذ سبقه بيان مشترك لرؤساء كندا وأستراليا ونيوزلندا انتقد بشدة الهجمات الإسرائيلية ضد قطاع غزة وأنّ “ثمن هزيمة حماس لا يمكن أن يكون المعاناة المستمرة لجميع المدنيين الفلسطينيين”.
كما دعا البيان الثلاثي للدول التي كانت أيدت إسرائيل صراحةً بعد هجوم 7 تشرين الأول عن دعمهم للجهود الرامية للتوصل إلى اتفاق شامل لإطلاق النّار.
هذه المواقف الدّوليّة من أميركا إلى البيان الثّلاثيّ، جاءَت بعد جولات مكّوكيّة للجنة الوزارية العربيّة المُنبثقة عن قمّة الرّياض الاستثنائيّة. حملت اللجنة في زياراتها إلى عواصم القرار الدّوليّ موقفاً موحّداً ضدّ السّياسات الإسرائيليّة في قطاع غزّة والضّفّة الغربيّة والحدود مع لبنان.
وأيضاً عربيّاً، منذ انهيار اتفاق الهُدنة بين إسرائيل وفصائل المُقاومة الفلسطينيةّ، لم تهدأ حركة الاتصالات القطريّة – المصريّة لإرساء هدنة إنسانيّة جديدة في القطاع. دخلَت أميركا على الخطّ وطلبَت من قطر ومصر التّحرّك مُجدّداً.
عودة مفاوضات الهدنة
كشف مصدر دبلوماسيّ عربيّ لـ”أساس” أنّ “المعنيّين في العاصمتيْن، الدّوحة والقاهرة، تواصلوا مع فريق التفاوض الإسرائيلي نهاية الأسبوع الماضي، وسألوهم إن كانوا على استعداد للتّوصّل إلى هدنة جديدة في القطاع. وكان الجواب الإسرائيليّ إيجابيّاً بعدما كانَ التّعنّت هو سيّد الموقف منذ انهيار الهدنة السّابقة في يومها الثّامن”.
جاءَ التّواصل القطريّ – المصريّ مع تل أبيب بعد زيارة رئيس الوزراء القطريّ الشّيخ محمّد بن عبد الرّحمن آل ثاني العاصمة الأميركيّة واشنطن ولقائه وزير الخارجيّة الأميركيّ أنتوني بلينكن، الذي طلبَ من ضيفه القطريّ التّحرّك مُجدّداً على هذا الخطّ.
أضاف المصدر الدبلوماسي لـ”أساس” أنّ “النّقاش لا يزال في بداياته، ولم ينضج بعد إلى المستوى الذي يسمح بتجديد الهُدنة، لكنّ الأمور تتّجه نحوَ التّوصّل إلى اتفاقٍ جديد”.
أساس الهُدنة الجديدة هو استكمال الصّيغة السّابقة، واستكمال إطلاق النّساء الأسيرات لدى حماس، اللواتي لم يُطلَق سراحهنّ بعد انهيار المُفاوضات. من هذا المُنطلَق سيكون استكمال “اليوم الثّامن” من الهدنة السّابقة المُنطلَق لاتفاقٍ يُرجّح أنّه سيكون أكثر من يومٍ واحد، مع إدخال عناصر إضافيّة إلى الاتفاق، من دون تحديد ماهيّتها بعد.
يعزو المصدر قبول إسرائيل التفاوض في هذا التوقيت إلى 4 أسباب:
الأوّل: أنّ تل أبيب كثّفَت عمليّاتها في القطاع بعد الهدنة السّابقة، خصوصاً مع فتح جبهات في جنوب القطاع باتجاه مدينة خان يونس، أحد أبرز معاقل حماس. وهذا يخدم طريقة عمل حكومة بنيامين نتانياهو القائمة على التّفاوض تحت النّار.
الثّاني: أنّ الجيش الإسرائيلي يواجه ارتفاعاً كبيراً في الخسائر في العديد والعتاد. ويواجه نقصاً في الذّخائر بعد استنفاد أكثر المخزون المحلّي، والهدنة تُعطي وقتاً للقيادة العسكريّة لإعادة ترتيب أمورها اللوجستيّة في القطاع في انتظار وصول 45 ألف قذيفة من مخزون الولايات المتحدة الأميركية. الجزء الأول منها هو 14 ألف قذيفة تصل بأسرع وقت.
الثّالث: تُحاول حكومة نتانياهو تخفيف الضّغوط الدّوليّة، وتجنّب أيّ محاولة ضغطٍ أميركيّة، خصوصاً بشأن الأسرى الأميركيين لدى حماس، إذ تُقدّر أميركا أنّ قسماً منهم موجود في خان يونس، حيث تتركّز العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة.
الرّابع: تجدُ إسرائيل في الهدنة فرصة للعمل على تجميع البيانات والمعلومات الاستخباريّة التي قد تقودها إلى أمكنة احتجاز العسكريين الإسرائيليين في القطاع. إذ تعتبر القيادتيْن السّياسيّة والعسكريّة في تل أبيب أنّ محاولة “تحرير الأسرى” سيُجنّبها اتفاقاً “مؤلماً وقاسياً” مُستقبلاً إذا ما اضطرّت إلى القبول بشروط حماس للتبادل.
سوليفان في تل أبيب
تزامناً مع تصريحات بايدن ضدّ حكومة نتانياهو وعودة الحديث عن عن الاتصالات القطريّة – المصريّة، يصل إلى تل أبيب مدير مكتب الأمن القوميّ جيك سوليفان نهاية الأسبوع الجاري.
تشير مصادر في مكتب الأمن القوميّ الأميركيّ لـ”أساس” إلى أنّ أجندة سوليفان تندرجُ عليها الملفّات الخلافيّة بين واشنطن وتل أبيب وأبرزها:
1- استعادة الهدنة: تُريد واشنطن أن تعود تل أبيب إلى المفاوضات غير المُباشرة مع حماس لاستكمال الإفراج عن الأسرى، خصوصاً ما بقي من حمَلة الجنسيّة الأميركيّة، إذ تعلو أصوات في الإدارة الأميركيّة مع اقتراب موعد الحملات الانتخابيّة الرّئاسيّة. كذلك يندرج في هذا الملفّ زيادة عدد الشّاحنات التي تحمل المساعدات الغذائيّة والطّبيّة ومياه الشّرب إلى قطاع غزّة، وهذا مردّه إلى تراجع تأييد بايدن في صفوف النّاخبين الأميركيين بسبب طريقة إدارته لملفّ الحرب على قطاع غزّة.
2- اليوم الذي يلي الحرب: تأتي زيارة مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ بعد أسبوع من زيارة مستشار نائبة الرّئيس لشؤون الأمن القومي فيل غوردون، الذي بحث في تل أبيب ورامَ الله “من يحكم غزّة بعد الحرب”.
يحمل سوليفان رسالة من الرّئيس الأميركيّ إلى القادة السّياسيين في إسرائيل عن هذا الملفّ الخلافيّ، مُفادها أنّ واشنطن لن تقبل بإعادة احتلال القطاع، وضرورة أن تكونَ غزّة تحت سيطرة السّلطة الفلسطينيّة. بكلامٍ آخر، “لا حماس ولا إسرائيل”. وفي هذا الإطار، “سيحثّ الحكومة الإسرائيليّة على عدم المساس بأموال السّلطة الفلسطينيّة”.
سيُؤكّد أيضاً على الإسرائيليين ضرورة “بلورة خطّة واقعيّة لا تتضمّن أيّ احتلال لغزّة أو تصعيدٍ للتّوتر مع السّلطة الفلسطينيّة”. إذ لمسَ غوردون من المسؤولين في إسرائيل أن لا خطّة لديهم لليوم الذي يلي الحرب.
هذه المسألة ليسَت تفصيلاً على أجندة البيت الأبيض. إذ لم “يستسغ” بايدن من الأساس وصولَ حكومة يمينيّة مُتطرّفة إلى الحكم في إسرائيل.
3- الحدود مع لبنان: يعمل مكتب الأمن القوميّ مع المبعوث الرّئاسيّ آموس هوكستين، الذي ينوي زيارة بيروت وتل أبيب قريباً، على مُعالجة التّوتّر والمواجهات على الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة. إذ سينقل سوليفان إلى تل أبيب تأكيد بلاده “ضرورة تجنّب استفزاز الحزب، وعدم توسعة نطاق الحرب”. كما أنّ هوكستين آتٍ للمنطقة لمُحاولة مُعالجة الأمور عبر إعادة تحريك قضيّة “تثبيت النّقاط البرّيّة بين لبنان وإسرائيل”.
إقرأ أيضاً: صفقة حماس: فوق الأرض لكم وتحت الأرض لي
في الوقت عينه، نفت المصادر كلّ ما يُتداول عن اتفاقٍ يقضي برقابة أميركيّة – فرنسيّة للحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة، مقابل تراجع الحزب إلى منطقة شمال الليطاني. لكنّ واشنطن لا تخفي دعمها “الجهود الفرنسيّة الرّامية إلى نزع فتيل التّوتّر هُناك”.
4- البحر الأحمر: كذلك ستكون عمليّات ميليشيات الحوثي في البحر الأحمر حاضرة على أجندة سوليفان. بحسب المعلومات، فإنّ سوليفان سيُبلغ تل أبيب أنّ بلاده ستتعامل مع “التهديدات الحوثيّة”، وعلى إسرائيل تركيز اهتمامها على غزّة.
تكمن خطّة واشنطن في البحر الأحمر في تشكيل تحالفٍ بحريّ يعمل على تأمين ممرّات التّجارة والملاحة البحريّة في المنطقة، خصوصاً أنّها ممرٌّ أساسيّ لتجارة النّفط عالميّاً، وشريان أساسيّ لإسرائيل. وهذا يندرج في “المحظورات الأميركيّة” في المنطقة، التي على رأسها: أمن إسرائيل، وأمن الممرّات المائيّة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@