سهيل إدريس في ذكراه… أين أسئلته؟

مدة القراءة 5 د


في حوار معه، حكى سهيل إدريس الروائي والناشر والقاصّ اللبناني البيروتي، مؤسس مجلة الآداب ودارها، قصة تحوّل روايته “الحي اللاتيني” ذائعة الصيت، إلى رواية على أرض الواقع، شكّل هو أحد طرفيها.
ذلك كان حين التقى عن طريق الصدفة فتاةً لم تعجبها روايته الصادرة حديثاً حينذاك، أي “الحي اللاتيني” التي استقبلها النقاد والوسط الثقافي العربي بالترحاب والتهليل. قالت له الفتاة اللبنانية إنها قرأت روايته ولم تعجبها. تعجّب سهيل إدريس العائد حديثاً من فرنسا حاملاً شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، وطلب منها أن تعيد قراءتها، علّها تغيّر رأيها فيها.

نقدٌ فني ومعرفي يقود إلى زواج
فعلت الفتاة، وحين التقيا مجدداً، عاود الكرّة سائلاً إياها رأيها. قالت له: لقد قرأتها مرةً ثانيةً، بل درستها بتمعّن، وما زلت عند رأيي بل إن رفضي لها ازداد عما كان عليه بعد القراءة الأولى، إذ اكتشفت فيها تصوراً غير صحيح، وحماسةً غير متوقعة للفتاة الغربية، واستخفافاً بالمرأة الشرقية… إلخ.
لم يستسغ إدريس رأيها وقتها، وراح يبحث عن سبيل إلى إسكاتها، فكان الزواج. وهكذا حصل، تزوج سهيل إدريس بعايدة مطرجي. كان الهدف إسكاتها، أما النتيجة فكانت أن سكت سهيل إدريس نفسه، على ما قال.

التزام وتحرر
شكّلت “الحي اللاتيني” في زمنها، نقلةً نوعيةً في عالم الرواية العربية، وكرّست إدريس سيّداً على عرشها لفترة طويلة من الزمن.

سهيل إدريس لا يزال ينطق إلى اليوم، برغم موته، مقالات وروايات ودواوين ودراسات. أبعد من ذلك، نطق إدريس معجماً هو “المنهل”. حاول فيه مصالحة اللغة العربية مع العصر والتقريب فيه بينها وبين الفرنسية

كانت الرواية قصة “صراع ثقافي بين حضارة مؤثّلة (مؤصلة) شديدة الارتباط بالتراث هي الحضارة العربية في مواجهتها لوضع حضاري يفرضه الغرب ويودّ العربي فيه أن يلحق بالركب الحضاري عن طريق المزيد من هذه الثقافة”، كما يقول عنها إدريس نفسه.
صراع قديم انبرى له أهل النهضة العربية من أمثال الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهما كثر.
يبدو أن إدريس نفسه حذا حذوهما، وهو الشيخ الذي درس الفقه والتراث لكنه لم يلتزم الزي الديني وفضّل السفر إلى الحي اللاتيني في فرنسا للتعرف إلى الآخر وعليه فكراً وثقافةً وحضارةً.
تشبه حكاية سهيل إدريس من هذه الناحية سيرة حسين مروة الشيخ الذي شلح العمامة في النجف وتغلغل في ماديات التراث الإسلامي، وانتهى طفلاً كما في سيرته التي كتبها وجمعها الشاعر عباس بيضون. يومها قال مروة “ولدت شيخاً وأموت طفلاً”.
بين أبناء جيله والأجيال اللاحقة، يُعدّ سهيل إدريس أديباً وروائياً ملتزماً بالمعنى القومي، أي القومية العربية التي وفق نظره لا تكون بغير الحرية.

بين القومية والدين والحرية
هي الحرية التي استقاها من منابعها الوجودية، من الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر. لكنها حرية سرعان ما طوّقتها الأنظمة العربية وقضت عليها سريعاً. سكتت هي الأخرى. كما سكت الجميع ليستمع “لصوت المعركة الذي لا يعلو عليه صوت”.
إلا أن سهيل إدريس لم يسكت. نطق مجلةً هي “الآداب” درّة المجلات الأدبية والثقافية، التي لا تزال تعاند وتصدر. مجلة حاملة لواء الحداثة وقصيدة التفعيلة والتبشير بالرواية العربية الجديدة، وغيرها من القضايا. ونطق كتباً ودواوين عبر دار النشر التي أسسها وشريكه الشاعر الأشهر نزار قباني.
سهيل إدريس لا يزال ينطق إلى اليوم، برغم موته، مقالات وروايات ودواوين ودراسات. أبعد من ذلك، نطق إدريس معجماً هو “المنهل”. حاول فيه مصالحة اللغة العربية مع العصر والتقريب فيه بينها وبين الفرنسية.
كان الرجل يحمل همّاً ثقافياً حداثياً. ورث أسئلةً عن رعيل النهضة الأول، وحاول سبر أغوار الإجابات عنها. كان نهضوياً بكل معنى الكلمة أنّى وقف الناس منه.

بين أبناء جيله والأجيال اللاحقة، يُعدّ سهيل إدريس أديباً وروائياً ملتزماً بالمعنى القومي، أي القومية العربية التي وفق نظره لا تكون بغير الحرية

صراع لا ينتهي
إلى الصراع بين حضارتين، أو بين عربي ونفسه إزاء الانبهار بالثقافة أو الحضارية الغربية، الذي تناوله إدريس في روايته الأولى، عالج أو حاول معالجة صراع من نوع آخر في روايته الثانية، “الخندق الغميق”.
إنه صراع بين جيلين في بيئة دينية في حي من أحياء بيروت في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، تحمل الرواية اسمه. صراع بين الأب وابنه والأب وأولاده الساعين إلى التحرر والانفتاح، بينما يلتزم هو -أي الأب- بما نشأ عليه ثقافةً وسلوكاً.

أسئلة بلا أجوبة
الخوض في الصراعين آنفي الذكر تبعث عليه ذكرى رحيل الدكتور سهيل إدريس في هذه الأيام ،وهو المولود في بيروت عام 1925. رحل الروائي الألمعي والناشر الطليعي، ولا يزال الصراع، بل الصراعان اللذان خاض فيهما، نصب أعيننا، دون إجابة عنهما أو حلّ لهما، بل دون السؤال عنهما حتى.
ـ ما جوابنا عن البيئات الدينية وصراعات الأجيال فيها، وهي البيئات التي تعيد إنتاج نفسها ومعرفتها الثقافية ولا تزال تتصدى لكل جديد وتطرح أسئلةً وجوديةً حادةً تمس مصائر أبنائها وأوطانهم حتى اللحظة؟
ـ أبعد من ذلك، من يتصدى الآن للسؤال الرئيس الذي شغل أرباب النهضتين الأولى والثانية، وتفرعت عنه أسئلة كثيرة: لماذا يتأخر الشرق يتقدّم الغرب؟ وهل ما زلنا عند هذا السؤال حقاً؟.

إقرأ أيضاً: قلوب المثقفين تدور كما الأرض… وتتعب

هل من سهيل إدريس آخر، يقرّب القارة اللاتينية والعالم إلينا أو يقرّبنا منهما؟
حقاً سكت سهيل إدريس، كما قال، وهو يحاول إسكات أسئلةً كثيرة عبر محاولة الإجابة عنها. لكن سكوته هو نوع من الصمت الثقيل الذي يزيد من معضلة علاقة العقل بأدوات المعرفة، وهي مهرفة أتقنها الراحل؟.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: jezzini_ayman@

مواضيع ذات صلة

سجون داعش… متحف افتراضيّ لحكايا الجرائم

قبل كلّ هذه الموجة العسكرية الجديدة في سوريا، وعودة “جبهة النصرة” المولودة من رحم تنظيم “داعش”، باسمها الجديد: “هيئة تحرير الشام”، وقبل التطوّرات الأخيرة التي…

مهرجان BAFF يضيء على “روح” لبنان… في لحظة موت

يقدّم مهرجان BAFF هذا العام، الذي انطلق اليوم الإثنين، عدداً من الأفلام التي تحيّي “طرابلس عاصمة الثقافة العربية” و”أسرار مملكة بيبلوس” و”المكتبة الشرقية إن حكت”…

بيروت تتنفّس الصّعداء: سينما… وبوح النّازحين

بدأت الحياة الثقافية تتنفّس الصعداء في لبنان وإن بخجل، بعد شلل قسري تامّ منذ أواخر أيلول الماضي وتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان وتخطّيها الحدود إلى…

فيلم “أرزة”: بارقة أمل لبنانيّة… من مصر إلى الأوسكار

أينما يحلّ فيلم “أرزة” اللبناني (إخراج ميرا شعيب وتأليف فيصل سام شعيب ولؤي خريش وإنتاج علي العربي) يمنح المشاهد، وخصوصاً اللبنانيين، الكثير من الأمل. فعدا…