سلامة يُخدّر الاقتصاد: أخفى الليرات ليسحب الدولارات

مدة القراءة 7 د


حينما يدخل المريض العناية الفائقة، يعمد الأطباء إلى الحدّ من حركته وصرفه للطاقة والجهد من خلال تخديره وتنويمه، وتسمّى هذه الحالة في عالم الطب Sedation. وهو تماماً ما يحاول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة القيام به مع الاقتصاد اللبناني المنازع على فراش الانهيار.

قبل أسبوع، أصدر سلامة التعميم الوسيط رقم 573، الذي قضى بإلزام التجار إيداع النسبة المطلوب تغطيتها للسلع المدعومة، أوراقاً نقدية (banknotes) لدى المصارف، بغية تأمين مصرف لبنان العملات الأجنبية اللازمة لعملية الاستيراد وفق السعر الرسمي 1507 ليرة لبنانية.

إقرأ أيضاً: لعبة “المركزي” مع الليرة: إنفصام وانتقام!

لم يكتفِ سلامة بهذا القرار، وإنّما استتبعه بإجراء إضافي غير مُعلن، خصّ المصارف أيضاً، وقضى بخفض سحوباتها بالليرة اللبنانية من مصرف لبنان.

أما الهدف من كلّ ذلك، فهو يُختصر بمحاولة تجفيف العملة اللبنانية من السوق لخلق طلب مصطنع على الليرة. هذا الطلب قد يساهم في الحدّ من ارتفاع سعر صرف الدولار أوّلاً، وثانياً سيؤدي إلى الحدّ من حجم التضخم وارتفاع أسعار السلع، ولا يُستبعد أن يؤدي فعلياً إلى اختفائها من الأسواق.

لن يؤثر هذا الإجراء على السيولة لدى المصارف فحسب، وإنما سينسحب كذلك على قدرة التجار على تأمين الليرات اللبنانية، وسيؤثر أيضاً على المودعين لناحية اصطدامهم بسقف سحوبات إضافية، بخلاف الدولار، يخصّ العملة الوطنية. كما سيمّس بشكل مباشر بالدورة الاقتصادية كاملة، وسيصيبها بالانكماش إلى الحدود الدنيا.

هذا الاجراء هو لعبة جديدة لا تتّسم بالشفافية مع غياب التواصل بين المصارف والمودعين لإعلامهم بالإجراءات التي ستتّخذها على ضوء فهم الإجراء مع مصرف لبنان وما الهدف منه

قبل الأزمة، كان مصرف لبنان يمتصّ العملة اللبنانية من خلال رفع الفوائد، التي كانت المصارف تستخدمها كعنصر جاذب للودائع. لكن بعد ضياع الثقة بالقطاع المصرفي، بات “المركزي” مضطراً إلى امتصاص فائض العملة التي ضخّها في السوق منذ بداية الأزمة إلى اليوم، والتي تُقدّر بحسب أرقام مصرف لبنان بنحو 16 تريليون ليرة لبنانية.

يقول مصدر مصرفي لـ”أساس” إنّ سحوبات المصارف من حساباتها لدى مصرف لبنان “لم تكن مقيّدة بسقف محدّد أبداً من قبل، وهذا الإجراء جديد وقد حرمها نحو 2 على 10 من أصل سحوباتها. أي ما يعادل خفض السقف 80%”. يكشف المصدر أنّ المصارف “باتت مقيّدة بسحب ما يقلّ عن 14 مليار ليرة شهرياً، وذلك بحسب حجم المصرف وعدد فروعه. بعض المصارف قد لا يُسمح لها بسحب أكثر من 3 مليارات ليرة شهرياً فقط”. يضيف المصدر أنّ “هذا الاجراء سيؤثّر بشكل كبير على المستوردين، خصوصاً أؤلئك المضطرين إلى شراء الدولارات بالعملة اللبنانية من السوق السوداء من أجل تغطية ثمن بضائعهم المستوردة”.

“أساس” تمكّن من معرفة الإجراءات المتبعة حديثاً في “فرنسبنك” على سبيل المثال، فقد دُعيت الفروع أمس، إلى خفض سقف سحوبات المودع الواحد من الصرافات الآلية إلى 500 ألف ليرة لبنانية يومياً، أو إلى مليوني ليرة أسبوعياً، أو إلى 2 مليون ليرة شهرياً، وذلك من أجل “عدم قطع الناس من الأموال الكاش”. كما أنّ المصرف سيوقف دفع الأموال الكاش على الصندوق لحسابات التوطين، لكن في المقابل سيمكّن المودعين من تسهيلات تخصّ عمليات الدفع بالبطاقات البلاستيكية Debit cards.

خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي قال لـ”أساس” إنّ هذا الاجراء هو “لعبة جديدة لا تتّسم بالشفافية مع غياب التواصل بين المصارف والمودعين لإعلامهم بالإجراءات التي ستتّخذها على ضوء فهم الإجراء مع مصرف لبنان وما الهدف منه”. ويضيف: “الإجراء قصد المصارف وليس المودعين، لكنّه خطأ كبير أن تفاجىء المصارف مودعيها بهذا الشكل. فلا يمكن تصفير السحوبات بالدولار، وترك ممرّ جانبي لسحب الدولارات بنفص قيمتها السوقية، على سعر 3900 ليرة، بسقف محدّد معدّله 2500 دولار شهرياً… ثم تأتي المصارف اليوم لتقلّص سقف السحوبات بالليرة اللبنانية، واستطراداً سقف السحوبات بالدولار على سعر منصّة مصرف لبنان، أي 3900 (اللولار). هذا الأمر سيفتح ثغرة إضافية أمام المصارف، وسيسمح لها بالاستنساب في ظل غياب وحدة المعايير”. وهذا ما بدأ بحصل، إذ أنّ هناك مصارف خفّصت سقف السحوبات باللولار جزئياً، وأخرى إلى النصف، وبعضها لم يخفّض بعد.

يدرك رياض سلامة جيداً أنّ المساعدات المرتبطة بالإصلاحات قد تطول، وأنّ الحكومة قد لا تبصر النور قريباً، قبل دخول رئيس أميركي جديد البيت الأبيض

في نظر فحيلي، فإن هذا الوضع يؤكّد مجدّداً على “ضرورة إنجاز مشروع قانون الكابيتال كونترول سريعاً، لأنّه سيسهم بشكل حاسم في تهذيب سلوك المصارف، وليس في استباحة حسابات المودعين كما يحصل اليوم”، شارحاً أنّ هذا القانون “لم يعد متعلّقاً بقوننة السحوبات بالدولار فحسب، وإنما هو مطالب بأن يشمل أيضاً قوننة السحوبات بالعملة الوطنية”.

أما جمعية المصارف فقد أكدت في بيان لها، أنّ هذا التدبير “مؤقّت” وتفرضه أوضاع استثنائية. تلجأ إليه المصارف المركزية من أجل “مكافحة التضخم والارتفاع المفرط في أسعار السلع والخدمات”، متعهّدة في الوقت نفسه بـ”تأمين السيولة للمودعين من دون أن تكون سيولة نقدية (بطاقات بلاستيكية)”، داعية المودعين إلى “تفهّم مبرّرات هذه الإجراءات المؤقّتة” التي من شأنها أن “تساهم في تنظيم وضبط السوق”.

وبعيداً عن العمليات النقدية داخل المصارف، فإن إجراء مصرف لبنان الأخير والتعميم 573 الصادر قبل أسبوع، سيتسبّبان حكماً بالحدّ من عمليات الاستيراد، وذلك بسبب شحّ السيولة بالليرة اللبنانية من يد المستهلكين والتجّار والمستوردين على السواء. هذا الأمر سيؤدّي إلى “إتمام أغلب العمليات التجارية بالأموال الكاش، وقد يكون ذلك متعذراً أمام صغار التجار والعديد من المواطنين. سيتقلّص الاستهلاك إلى حدوده الدنيا وستنكمش الدورة الاقتصادية. ولا يُستبعد أن يخلق عملة لبنانية جديدة تخصّ البنوك على غرار “اللولار” مقابل الدولار، وقد تُسمى “البيرة” (نسبة إلى الليرة الخاصة بالبنك) في مقابل الليرة، ربما يُتداول بها بواسطة الشيكات أيضاً وبقيمة أقل من قيمتها الفعلية!

هذا بدوره سيقود إلى تحجيم الطلب على الدولار. بل أكثر من ذلك، قد يتسبّب بعرض المزيد منه في “السوق السوداء” لأنّ الشحّ بالليرة اللبنانية قد يدفع الناس إلى صرف مدّخراتها، أو إلى تصرّفها بتلك الآتية إليهم من المغتربين في الخارج من أجل سدّ رمق العيش.

مع الوقت قد يؤدّي هذا كلّه، وخلال أشهر قليلة، إلى انخفاض سعر صرف الدولار (إذا لم تطرأ متغيّرات دراماتيكية على المشهد السياسي) لأنّ لعبة العرض والطلب على الدولار ستتحوّل إلى رقصة “تانغو”، بين راقصَين رئيسيين هما: الدولار والليرة اللبنانية، فبلا واحد من هذين العنصرين لا تتم الرقصة.

ربما في حينه لن يكون سوى المصرف المركزي “قادراً على الرقص”، لأنه سيكون المسيطر الوحيد على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، بعد أن يكون قد تمكّن من لجم انفلاشها، وسيتمكّن بالتالي من التحكّم بسعر صرف الدولار إلى حدّ كبير، ولا يُستبعد أن يعزّز احتياطي عملاته الأجنبية بسبب هذا كله، كونه الجهة الوحيدة التي ستكون قادرة على ضخّ الليرات وسحب الدولارات.

يدرك رياض سلامة جيداً أنّ المساعدات المرتبطة بالإصلاحات قد تطول، وأنّ الحكومة قد لا تبصر النور قريباً، قبل دخول رئيس أميركي جديد البيت الأبيض. خصوصاً أنّ الشهرين الفاصلين بين انتخاب الرئيس واستلامه مقاليد الحكم في حال خسر دونالد ترامب أمام جو بايدن، قد يشهدان أحداثاً ومتغيّرات كثيرة في المنطقة، وقد “يسلّمها ترامب خربانة”.

قد يكون الاقتصاد اللبناني بحاجة إلى 6 أشهر من اليوم وهذا ما يدفع سلامة إلى خيار الـSedation  (تخدير المريض) من أجل المحافظة على فاعلية وظائفه الحيوية بأقلّ قدر ممكن من الجهد والخسائر في ظلّ غياب كامل للسلطة، ريثما تنجلي الصورة، ولو كان ذلك مؤقتاً، وعلى حساب الاقتصاد والاستيراد والاستهلاك… ربما لأنّ سلامة النقد تأتي أولاً.

 

*ملاحظة: أصدرت “جمعية المصارف” ليل أمس بياناً أكّد أنّ “المصارف ستواصل تأمين الليرة للسوق بشكل طبيعي من دون أن تكون محصورة بالسيولة النقدية”، داعية المواطنين الى “استعمال الوسائل الأخرى المتاحة كبطاقات الإئتمان، الشيكات والتحاويل المصرفية”. إلا أن مصادر متابعة أكدت لـ”اساس” أن “لا شيء سيتغير والبيان يهدف إلى تهدئة النفوس فقط”.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…