مشت الحكومة قرب أول الألغام في خطتها. لم تشأ أن تفكّكه ولا أن تفجّره. قرّرت بصريح العبارة خفض سعر الصرف إلى 3500 ليرة، وعمدت إلى صيغة حمّالة أوجه لموعد التنفيذ.
اللغم ما زال في قلب الخطة إذاً، إلا أن رئيس الحكومة حسان دياب يريد له أن يفجّر الشارع في وجه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بدلاً من أن ينفجر بوجه حكومته ويفجّرها من داخلها.
الخطة الحكومية تنص بصريح العبارة على رفع سعر الصرف تدريجياً حتى 4300 ليرة للدولار في 2024.. فلماذا تنصّل دياب؟
كانت الصيغة الواردة في المسودة باللغة الإنكليزية صريحة في قولها إنّ “سعر الليرة اللبنانية سيتمّ خفضه رسميا في بداية تطبيق برنامج الإصلاح”. إلا أنّ النقاش في مجلس الوزراء أفضى إلى الاستعاضة بعبارة بديلة نصها أنّ “(سعر) الليرة اللبنانية سيتمّ تعديله في المستقبل المنظور”. غير أنّ هذا التعديل سقط سهواً، على ما يبدو، من النسخة المعرّبة، إذ ظلّ نص العبارة: “ستخسر الليرة اللبنانية قيمتها في بداية تنفيذ الخطة الإصلاحية”. وهو ما استدعى إيضاحاً لاحقاً من وزارة المالية عبر تويتر، بأنّ النسخة المتداولة باللغة العربية ليست النسخة النهائية، “لأنه يتمّ تنقيحها في الوقت الحاضر”.
إقرأ أيضاً: في قلب الصراع: من يسيطر على البنوك؟
ما هو أبعد من الخطأ المادي والصياغة الضبابية، أنّ الخطة الحكومية، بكلّ مفاصلها، تشير إلى أنّ حسابات الخسائر مبنية على أساس سعر الصرف عند 3500 ليرة للدولار، بما في ذلك حسابات الخسائر الكلية المقدرة بنحو 241 تريليون ليرة. بل إنها ترجمت الخسائر المقدّرة للبنوك ومصرف لبنان في المسودة السابقة إلى الليرة وفق سعر الصرف الجديد، إذ إنها تقدّر خسائر مصرف لبنان بـ 177 تريليون ليرة (50.6 مليار دولار)، وخسائر المصارف بـ 186 تريليون ليرة (53.2 مليار دولار).
وأكثر من ذلك، تشير الخطة إلى رفع تدريجي لسعر صرف الدولار بنحو خمسة في المئة سنوياً، ليصل إلى 4300 ليرة تقريباً في العام 2024.
صلاحيات من صميم صلاحيات مصرف لبنان تتضمّنها الخطة لاسيما ما يتعلّق بإعادة رسملة البنوك
فكيف يخرج رئيس مجلس الوزراء بعد ذلك ليتنصّل من قرار متخذ في حكومته بخفض سعر الصرف، ولو من دون تحديد الموعد، ليقول إن الأمر يخصّ مصرف لبنان؟
يأتي الجواب من دياب نفسه. ففي كلمته للبنانيين بعد إقرار الخطة، عمد إلى صيغة تضع الشارع الغاضب في مواجهة مع مصرف لبنان، لا مع الحكومة. قال إنّ “هناك أزمة اجتماعية تتفاقم، وتدفع اللبنانيين إلى التعبير عن غضبهم من الواقع المعيشي والاجتماعي الصعب، خصوصاً في ظل ارتفاع الأسعار بشكل كبير ربطاً بارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، وهو أمر يفترض أن تضبطه إجراءات من مصرف لبنان المسؤول عن استقرار العملة الوطنية”.
يظهر ذلك مدى حساسية المسألة بالنسبة للحكومة، واستصعابها مواجهة الشعب بصريح قراراتها. لكنه يظهر أيضاً شكل الصراع المقبل حول القطاع المالي، والمواجهة المرتقبة مع حاكم مصرف لبنان، الذي وضع معادلة واضحة بأنّ تثبيت سعر الصرف “قرار وطني”، وهو يقصد أن التخلّي عنه قرار يخصّ السلطة السياسية. فما لو رفض سلامة تنفيذ قرار الخطة الحكومية من دون إقرار رئيسها بالمسؤولية السياسية عن هذا القرار؟
ليست تلك النقطة الوحيدة التي تنذر بالصراع بين السلطتين المالية والنقدية. فكثير من بنود الخطة يتعلّق بصميم صلاحيات مصرف لبنان، لاسيما إعادة رسملة البنوك، وبالتالي إعادة تشكيل هيكل ملكياتها. وليس صدفة أن تضع الخطة شرطاً محدّداً لمساهمي البنوك الحاليين للاشتراك في إعادة الرسملة، هو أن يعيدوا ضخّ كامل التوزيعات التي حصلوا عليها من بنوكهم بين العامين 2016 و2020.
الخطة تضع شرطاً على مساهمي البنوك للمشاركة في إعادة رسملة مصارفهم يتمثّل بإعادة كامل التوزيعات التي حصلوا عليها منذ 2016
كما أن الخطة تتضمّن بنداً لافتاً، هو الترخيص لخمسة بنوك تجارية جديدة، برأسمال لا يقلّ عن 200 مليون دولار لكلٍّ منها، شريطة أن تكون نصف تلك الأموال “جديدة”. ستكون تلك هي “البنوك الجيدة” القادرة على العمل بشكل طبيعي، ربما لترث القطاع من الأسماء التقليدية.
كل ذلك يشي بأن قنبلة سعر الصرف ستشكل المادة المتفجرة في الصراع للسيطرة على القطاع المالي، وربما إعادة رسم خريطة السيطرة عليه.
لكنّ عدم خفض سعر الصرف فوراً ينسف أساساً مهماً في الخطة ويستدعي إعادة إجراء حسابات للخسائر ولحجم الفجوة المطلوب ردمها. كما أنه ينسف أساس فكرة توحيد سعر الصرف وإلغاء السوق الموازية.
لبنان الدولة ما قبل الأخيرة من حيث المديونية في العالم: