زلزال غزّة: الحسابات والرهانات الأميركيّة والإيرانيّة والإسرائيليّة (1/2)

مدة القراءة 7 د


ما يحدث في قطاع غزّة ليس مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل وبين حركة حماس بقدر ما هو مواجهة دولية تتجاوز الأمور العسكرية إلى السياسة والاقتصاد والجغرافيا. تتنوّع الحسابات والمواقف بين الدول فتصطدم في مكان وتتقاطع في مكان آخر مع قناعة تبدو جامعة أنّ ما حصل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) في غلاف غزّة من شأنه أن يغيّر وجه المنطقة ومساراتها.
تساعد قراءة حسابات الدول الإقليمية والدولية في غزّة وفضائها على فهم ماهية الصراع الحالي والمآلات التي سيصل إليها. تُنشر هذه القراءة على جزءين: يتناول الجزء الأول إسرائيل، حركة حماس، الولايات المتحدة الأميركية، وإيران. فيما يتناول الجزء الثاني المملكة العربية السعودية، مصر، قطر، والإمارات العربية المتحدة.
1- إسرائيل: تعرّضت إسرائيل لأقصى ضربة تُوجّه إليها منذ عام 1948، إذ إنّ تنظيماً نفّذ عملية في عمقها الذي كانت تعتبره آمناً، وهو ما يختلف عن حرب أكتوبر عام 1973 التي قامت بها دولتان وجيشان نظاميان على حدودها. جاءت الضربة في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة، خصوصاً بعد عدد من اتفاقيات السلام والتطبيع، وفي ظلّ مفاوضات للوصول إلى اتفاق مع المملكة العربية السعودية. عملياً وجّهت عملية طوفان الأقصى ضربة أساسية لمثل هذا الاتفاق، فعرقلت مساره حالياً. وتأتي الضربة بعد أزمة سياسية واجتماعية كبرى تضرب المجتمع الإسرائيلي والمنظومة السياسية ككلّ. من نتائج هذه العملية إحداث صدمة جمعية داخل المجتمع الإسرائيلي للاستفاقة من الذهاب نحو اليمين الأكثر تطرّفاً، والاقتناع بأنّ مثل هذه النماذج لا يمكنها أن تمنح سلاماً ولا استقراراً. تريد إسرائيل كدولة عميقة أن تستفيد من هذه الضربة لإعادة اللحمة الداخلية، ولاستعادة عطف دولي، وخصوصاً أميركياً، بعد اختلافات كثيرة مع واشنطن، وإثر خلافات كبرى بين جو بايدن وبنيامين نتانياهو. ما بعد الضربة العسكرية التي ستنفّذها إسرائيل ضدّ قطاع غزّة، ستكون أمام خيار من اثنين: إمّا أن ترتدّ النتائج سلباً على اليمينيّين بمن فيهم نتانياهو الذي سيدفع ثمناً سياسياً هو انتهاء حياته السياسية، وتذهب تل أبيب إلى نهج جديد تعود فيه إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإمّا أن تستشرس أكثر بالرهان على دعم دولي واعتبار أنّه لا يمكنها التعايش مع الفلسطينيين أو الاعتراف بدولتهم، وهو ما يدفعها إلى ممارسة المزيد من العنف والتهجير في الضفّة كما في القطاع وتوسيع سياسة الاستيطان، لكنّ هذه ستؤدّي إلى مراحل جديدة من القتال.

ما يحدث في قطاع غزّة ليس مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل  وبين حركة حماس بقدر ما هو مواجهة دولية تتجاوز الأمور العسكرية إلى السياسة والاقتصاد والجغرافيا

2- حركة حماس: في المعطى الميداني والعسكري، فإنّ حركة حماس هي الطرف الأكثر استفادة ممّا جرى، وهي حركة المقاومة التي نفّذت عملية أدخلت إسرائيل في أزمة بنيوية. يعزّز ذلك من رصيد الحركة لدى الرأي العامّ العربي، ويمكنها أن تستفيد منه في الإمساك بواقع الأرض أكثر في فلسطين، من القطاع إلى الضفّة إلى عرب 48، وصولاً إلى فلسطينيّي الشتات. وهذا سيجعلها الطرف الفلسطيني الأقوى والأقدر على الإمساك بالقرار بدلاً من السلطة ومن منظمة التحرير. وبقدر ما تتمتّع “حماس” بعلاقات قوية مع إيران، فلا يمكن إغفال علاقاتها مع الدول العربية، وخصوصاً مع مصر، قطر، والمملكة العربية السعودية. وهي علاقات يمكن أن تتعزّز أكثر في المرحلة المقبلة. في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى تفيد بأنّ الإصرار الإسرائيلي على شيطنة حركة حماس بنتيجة هجومها على المدنيين، يمكن أن يؤدّي إلى إنهاء الحركة سياسياً وعسكرياً، وعدم الاعتراف بها ولا التواصل معها دولياً، ولذلك يتحدّث المسؤولون الإسرائيليون عن أنّهم يريدون تدميرها بالكامل، والدخول إلى قطاع غزّة وتسليمه للسلطة الفلسطينية أو لأيّ طرف آخر يمكن أن تكون لديه توجّهات لبناء السلام. لكنّ ذلك يبدو صعباً، وهناك تجارب تاريخية كثيرة تثبت العكس، فبعد دخول أميركا إلى أفغانستان لمواجهة حركة طالبان عادت وغادرت وسلّمت الحكم للحركة بناءً على اتفاق. وهناك الحزب المصنّف إرهابياً لكنّ أميركا تتواصل معه بشكل غير مباشر، وهو صاحب القرار الاستراتيجي الأبرز، والممثّل الشرعي للطائفة الشيعية في المجلس النيابي والحكومة. فلسطينياً، صُنّفت حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في السابق كما “حماس” اليوم، لكن أُعيد الاعتراف بهما.

تتنوّع الحسابات والمواقف بين الدول فتصطدم في مكان وتتقاطع في مكان آخر مع قناعة تبدو جامعة أنّ ما حصل في 7 أكتوبر في غلاف غزّة من شأنه أن يغيّر وجه المنطقة ومساراتها

3- الولايات المتّحدة الأميركيّة: تأتي حرب غزّة في أعقاب كلام كثير عن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من منطقة الشرق الأوسط، لتثبت العكس، فالاندفاع الأميركي في مساعدة إسرائيل ودعمها، وإرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة يثبتان الاهتمام الأميركي. يمكن لأميركا أن تكون الرابح الأكبر في ما يجري، وعلى أكثر من صعيد. أوّلاً ستستفيد ممّا جرى لممارسة أكبر أنواع الضغط على الإسرائيليين الذين يحتاجون إليها في عملياتهم العسكرية ولردع إيران وحلفائها، وبالتالي ستكون لواشنطن الكلمة العليا، تماماً كما حصل خلال حرب أكتوبر 1973، حين دفع هنري كيسنجر إسرائيل إلى الذهاب إلى مفاوضات السلام مع مصر. جاءت العملية في ظلّ أسوأ العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وبعد خلافات كبيرة بين نتانياهو وبايدن، وما بعد الدعم العسكري الأميركي ستكون واشنطن هي التي ستوجّه تل أبيب وسياستها، وهي التي ستدفع إلى التخلّي عن المتطرّفين الأشدّ يمينيّة في سبيل الذهاب نحو مفاوضات جدّية للتطبيع، والتنازل لمصلحة الفلسطينيين والعرب. من الناحية العربية، فإنّ أميركا ومن خلال عودتها ستنتهز أيضاً الفرصة لترتيب علاقاتها مع الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج، وستستفيد من الواقع القائم لدفع الإسرائيليين إلى التنازل في سبيل الاتفاق مع المزيد من الدول العربية، ولا سيما المملكة العربية السعودية. أمّا على خطّ العلاقة مع إيران، فإنّ الوجود الأميركي، والتعزيزات العسكرية سيكون لها هدف الردع أوّلاً، ودفع إيران إلى التفاوض الجدّي حول الاتفاق النووي ثانياً. كما أنّ للحضور الأميركي المتجدّد في المنطقة هدفاً استراتيجياً أبعد، وهو التأكيد أنّها حاضرة وباقية ولن تترك المنطقة لروسيا أو للصين، خصوصاً بعد عملها على إنجاز اتفاق طريق “الهند أوروبا” في مواجهة مشروع الصين “الحزام والطريق”. هناك هدف آخر لدى بايدن أيضاً وإدارته من هذا الدعم الكبير، وهو إطلاق معركته الانتخابية، وهو ما قد يُترجَم أكثر في زيارة بايدن للمنطقة، وتحديداً إسرائيل ومصر، التي يمكن خلالها أن يتمّ إعلان اتفاق على الإفراج عن عدد من الأسرى لدى “حماس”، ولا سيما حاملي الجنسية الأميركية.

إقرأ أيضاً: بلينكن يستنجد بالصين وبايدن يلجم اجتياح غزّة؟

4- إيران: منذ اللحظة الأولى، لم تشأ إيران أن تتبنّى رسمياً وعلنياً ما نفّذته حركة حماس، من خلال نفي أيّ علاقة لها بالتخطيط والإعداد والتنسيق حول تفاصيل العملية وتوقيتها على لسان المرشد علي خامنئي. ولكن في المقابل، لا يخفى الدعم الإيراني الكبير لحركة حماس من خلال مواقف طهران وجولة وزير خارجيتها أو من خلال مواقفها ومواقف حلفائها. ينطلق عدم التبنّي الرسمي الإيراني للعملية من خلفية أساسية، وهي أن لا تضع نفسها في واجهة الاستهداف مع أميركا، وهذا سيخوّلها أن تكون أحد اللاعبين الأساسيين في المفاوضات، وبالتالي ستكون مبادِرة في سبيل وقف العنف. يمكن لإيران أن تستفيد ممّا جرى في أكثر من مجال: أوّلاً ضرب مسار التطبيع الذي كان قائماً، وثانياً القول للجميع إنّه لا يمكن لأحد أن يُجري اتفاقاً يتعلّق بالقضية الفلسطينية بدونها، وثالثاً إثبات قدرتها وقوّتها في المنطقة، كشريك أساسي في صناعة القرارات والتحوّلات، ورابعاً التقدّم أكثر في ملفّات المنطقة والجلوس إلى الطاولة مع الأميركيين بشكل مباشر.

مواضيع ذات صلة

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…

“أساس” يُحاور بشّار الأسد: يحيى خرّب كلّ شيء

في غرفة أقرب ما تكون إلى الظلمة منها إلى الضوء، جلست ومعي قلم ودفتر بعدما سحبوا منّي آلة التّسجيل. كانت الساعة فوق الموقدة المشتعلة تُشير…