يستحيل أن تكتب عن سيرة سعد الحريري من دون مقاربتها بمعارف أخرى بخلاف السياسة، كالفيزياء وعلم النفس والميثولوجيا واللاهوت والرياضيات. قد يبدو ذلك غير مألوف، لكنّ تجربة الرجل الـ”يونيك” تلزمك بذلك. أن تكون ابناً لـ”الظاهرة” رفيق الحريري فذلك ليس أمراً سهلاً. فكيف إن ورثت “الظاهرة” في ما لها وما عليها من إنجازات وعلاقات وإخفاقات؟
تجربة الرجل في بناء الزعامة تتحدّى قانون الجاذبية. كلّ الزعامات تُبنى من اللبنة الأولى. من الصفر ثم تنطلق وترتقي صعوداً من خلال مراكمة الخبرات والتجارب حتى تبلغ رأس الهرم، إلاّ زعامة الشيخ سعد فعلت العكس. استيقظ في صباح 15 شباط، فوجد نفسه زعيماً مثقلاً بمسؤولية أكبر طائفة في لبنان بعد رحيل والده، ومذ ذاك تتواطأ الأحداث مع الجاذبية فتسحبه نحو الأسفل ضمن قانون “نيوتن” الخاص بالسقوط الحرّ.
إقرأ أيضاً: السنّة والدولة… توأمان لا ينفصلان
أخر هذه القرارت كان “التسوية الرئاسية”، التي أتت بميشال عون رئيساً وبصهره جبران باسيل وصياً على الجمهورية. ظنّ الحريري أنّ بلوغ عون قصر بعبدا قد يبعده عن “حزب الله” لكن العكس قد حصل. تساهله المتكرر قابله الطرف الآخر بمزيد من الجشع، فوجد الحريري نفسه في نهاية المطاف في أحضان باسيل المرمي بدوره في حضن الحزب. وافق على قانون انتخابي نسبيّ مشوّه، أفقده صبغته الوطنية الجامعة وحصره في زاوية الطائفة التي تقاسم تمثيلها، مكرهاً، مع حلفاء الممانعة السُنّة. للحفاظ على كرسي رئاسة الحكومة، راهن الحريري على نظرية مسطحة تولي التفاهم مع باسيل و”حزب الله” على فرض تسميته بقوة تمثيله في مجلس النواب بكتلة وازنة.
لكن لإنصاف الرجل لا بدّ من الاعتراف أنّ ثمة من دفعه إلى تجرّع هذا الكأس. تخلّي السعودية المتململة من أدائه أتى بنتائج عكسية. فبدل أن يثنيه عن السير في طريق التقرّب من الحزب وحلفائه، عبّدها الشحّ له أكثر فأكثر، خصوصاً بعد محنته في الرياض والإيحاء باستبدال أخيه البكر به. خاض الحريري معركته الانتخابية بما تيسّر، متسلحاً بوجهٍ صبوحٍ وهاتفٍ ذكيٍّ و”سيلفي”، رافعاً شعار “ما معنا مصاري” (منيييح؟) فاستطاع أن يسترجع نصف كتلته بشقّ الأنفاس، ثمّ أتت ثورة “17 تشرين الأول” وأعادته إلى مساء يوم السبت 4 تشرين الثاني 2017.
تجربة حزبه تتحدّى قوانين الرياضيات. الأحزاب كلها تنشأ على فكرة عند شخص حالم، ينقلها إلى آخر يُعجب بها فيصبحان إثنين، ثم إلى شخص آخر فيمسون ثلاثة… وهكذا دواليك ضمن “متتالية حسابية” إلى أن يشكلوا حزباً. تجربة “تيار المستقبل” لم تمرّ في هذا المخاض، لأنّ الحريري الأب ترك برحيله، مجموعات “أفقية” من المحبين والمناصرين الفاقدين لأيّ هرمية تنظيمية واضحة. الكل يرى نفسه معنياً ومؤهلاً ليحلّ مكان الآخر. صراع دائم تحكمه مقولة واحدة: “لماذا هو وليس أنا؟”، خضع في نهاية المطاف لـ”اتفاق هدنة” مقنّع ضمن توليفة شبه إقطاعية، أقصت الكثير من المخلصين وحصرت مركزية القرار داخل التيار الأرزق بابن العمّة.
هو “إيروس” الإغريق، أو “كيوبيد” الرومان، إله الحب الجميل الجذاب ذي الشبقية، الذي ينشر المحبة ويجمع من حوله المعجبات
لكن برغم كل ذلك. وبرغم تراجع شعبية الشيخ سعد بفعل الأزمة المالية التي عمّقت التباعد بينه وبين موظفيه والمسؤولين منه مالياً، وهم كثر، بقي حبّ الزعيم الشاب المتعلّم صاحب العلاقات الخارجية الواسعة، في قلوب الناس حاضراً ولو بخجل واضح اليوم. بقي الحريري تلك “الأيقونة” التي تجتمع ثالوث الرمزية والواقعية والتاريخ لدى الطائفة السُنّية.
سيكولوجياً، ينظر السُنة إلى سعد الحريري على أنّه “ابن رفيق الحريري” قبل أن يكون “الزعيم” الذي فرضته الظروف. هو وليّ الدم الذي لم يُثأر لدمّه بعد حتى لو تخطّى هو ذلك مع القاتل. لأنّه “لا يعلم” وعلينا أن نمنحه المزيد من الفرص ولو على حساب الطائفة وحقوقها وأرصدتها.
وفيما ينطلق المناصرون التقليديون من الزبائنية والسياسة القُحّ ليصلون إلى حُبّ الزعيم الخالص، يقارب السُنّة إخفاقات سعد الحريري من البُعد “العاطفي” لبلوغ ذاك “السياسي”. في نظر محبيه هو رجل طيب فُرضت عليه الزعامة ويحتاج للحماية والمؤازرة دوماً وبلا أي حساب.
هو “إيروس” الإغريق، أو “كيوبيد” الرومان، إله الحب الجميل الجذاب ذي الشبقية، الذي ينشر المحبة ويجمع من حوله المعجبات، لكن يستبدل السِهام (سهام كيوبيد ذو الأجنحة) بهاتف ذكي. هو تجسيدٌ لتناقضات تختصر السياسة اللبنانية بخواء استراتيجي وبراءة محبّبة. بل هو فراشة متألقة لكنها ضعيفة وصاحبة نَفَس قصير، كلما اقتربت من نور السلطة… احترقت.