لكم هي شديدة الحاجة اليوم إلى رفيق الحريري لجمع أطراف الوطن!
كان الرئيس الشهيد رابطاً بين لبنان ولبنان رُغم أنّ علاقته ما كانت سهلة أبداً في البدايات بالمسيحيين. لا هو كان يفهمهم جيداً ولا هم يفهمونه. لم يتقاربا تماماً إلاّ في المرحلة الأخيرة من حياته، لتتساوى خسارتهم به بمواطنيهم المسلمين.
والحال أنّ الحريري قبل ظهوره على المسرح السياسي، كان في انتظارات المسيحيين، منذ نشوء دولة لبنان الكبير قبل مئة عام من اليوم على رهان كبير للبطريرك الراحل الياس الحويك، ومَن حوله، على نجاح مشروع دولة يعلو فيها الولاء للوطن على الولاء للدين، وطن يستطيع أبناؤه جميعاً العيش فيه بحريتهم والمساواة في ما بينهم. فكرتهم البسيطة هذه كانت وراء سعيهم الحثيث عبر قرون من التعامل مع إمبراطوريات وحكام مسلمين يتساهلون ويتسامحون معهم أحياناً ويتشددون حيناً. وعندما سنحت لهم الفرصة مع تشكيل دول المنطقة عقب الحرب العالمية الأولى لم يتوقفوا عند اعتراضات المسلمين الذين ضُمّت مدنهم ومناطقهم إلى لبنان، وكان يعني بالنسبة إليهم الجبل موطن المسيحيين والدروز، ولم ينظروا إلى أنفسهم يوماً على أنّهم لبنانيون بل رعايا ومواطنون للدولة العثمانية، وقبلها ممالك أخرى إسلامية.
خفّف من صدمة تقسيم المنطقة وفق معاهدة “سايكس – بيكو” وقيام دولة لبنان رغم إرادة غالبية المسلمين، والتي تجلّت في مؤتمرات الساحل من سنة 1921 إلى سنة 1936، بعد ضرب حلم المملكة العربية السورية بقيادة الملك فيصل بن الحسين، التوصل لاحقاً إلى تسوية قضت بأن يكون لبنان دولة تحالف العرب وتحافظ على صلاتها بالغرب. وبدا لمرحلة من الزمن أنّ “الفكرة اللبنانية” البسيطة تلك تشق طريقها إلى النجاح بقبول المسلمين بها، متخلّين عن المطالبة بالدولة العربية الأكبر في مقابل تخلّي المسيحيين عن الحماية الأجنبية. بذلك تحقق الاستقلال ولكن بقيت “قوى ممانعة” ، ظاهرة ومُضمرة تحت الرماد لدى الجانبين.
رفيق الحريري كان متحرّراً من أوهام المسلمين والمسيحيين ومخاوفهم القديمة بعضهم بإزاء بعض، بنظرته المنفتحة على المستقبل والحداثة
عندما تسلّم رفيق الحريري رئاسة الحكومة عام 1992 كانت الدولة ذات الـ72 عاماً، المولودة في 1920، قد عاشت 23 سنة تحت الانتداب الفرنسي، وتمتّعت 26 عاماً بالاستقلال والسيادة الكاملة على أراضيها – وإن تخلّلتها حرب داخلية صغيرة في 1958- وعانت 15 سنة من الحروب الداخلية والخارجية المدمرة، وسنتين لم تلتقط فيهما أنفاسها. خلال كلّ تلك الحقبات كان “الممانعون” في الجانب المسلم يعبّرون عن تطلّعاتهم السياسية والوطنية، وتذمّرهم أيضاً من الفكرة الوطنية اللبنانية بمعناها الضيق التي حملها المسيحيون بغالبيتهم، من خلال السير تحت لواء فكرة القومية العربية ممثلة بالناصرية و”منظمة التحرير الفلسطينية” والقذافية و”البعث” بشقيه العراقي والسوري، أو تحت لواء الفكرة القومية السورية وأيضاً اليسار سواء بتشكيلاته الأممية أو تلك المطعّمة بطابع إقليمي ومحلي. بدورهم “الممانعون” في الجانب المسيحي لم يتراجع حنينهم، مدفوعين بالخوف خصوصاً في الأزمات إلى “الحمايات الخارجية”، أكانت فرنسية أم أميركية، أم سورية خلال “حرب السنتين” وبعدها، وصولاً اليوم إلى احتماء بعضهم بإيران وسلاحها المحلي في لبنان، فضلاً عن إفادة هذا البعض من نفوذ السلاح الإيراني للتسلق إلى المناصب وقطف غنائم في الدولة وخارجها.
إلاّ أنّ رفيق الحريري كان متحرّراً من أوهام المسلمين والمسيحيين ومخاوفهم القديمة بعضهم بإزاء بعض، بنظرته المنفتحة على المستقبل والحداثة وانشداده إلى العمران وتمسكه بالسلم ونبذ العنف والسلاح، جاذباً بذلك نخبة من المسيحيين، بينما وقفت جماعة منهم موقفَ حذرٍ حياله لم يتبدّد إلا لاحقاً. وكانت هناك مجموعة من السياسيين وأنصارهم حصر فيها نظام الأسد الأب والابن تمثيل المسيحيين خلال مرحلة الوصاية واضطر الحريري إلى التعامل معها، في الرئاسة والبرلمان والوزارات ومواقع مختلفة في الدولة.
والحق أنّ وقتاً غير قصير استلزم الرئيس رفيق الحريري ليفهم على المسيحيين، المتذمّرين المحبطين القلقين على الدوام، وليفهموا هم عليه، وأنّهم ظلموه بكثرة بينهم عندما صدّقوا لسنوات ادعاءات ومزاعم أطلقها ضده النظام السوري من خلال شخصيات وأجهزة امتهنت بث الأكاذيب وإثارة النعرات الطائفية لخدمة مصالحها ومحاربة مشروعه السياسي والاقتصادي للنهوض للبلاد. ومن الاتهامات البذيئة التي أشاعتها أنه يسعى إلى “أسلمة لبنان”، في مقابل بثّها في المناطق ذات الغالبية المسلمة أنّه يعمل لمحو طابعها وتراثها الإسلاميين، حين أنّه كان أبعد ما يكون عن عدم احترام التركيبة اللبنانية بكل مضامينها، متطلّعاً على الدوام إلى مشاركة الجميع في بناء لبنان مزدهر وحديث يشبه تطلّعاتهم.
وفي البحث عن أعذار لموقف الجماعة المسيحية آنذاك من الرئيس الحريري أنّها على الأرجح كانت ترى إلى رجل أقبل من السعودية وأخذ دورها، وصارت بحسد تتابع أخبار لقاءاته وبابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني، وقد كان يستقبله دورياً وعائلته، كما يلتقيه رئيس فرنسا جاك شيراك مراراً كل سنة ويرافقه إلى سيارته، ويبحث معه رؤساء الولايات المتحدة وسواها أوضاع لبنان وسوريا والمنطقة، مشكلّاً بذلك جسراً بين لبنان والعالم لطالما كانه رؤساؤهم وقادتهم. فكيف إذا رافقت علاقاته العالية المستوى هذه قدرة مالية ضخمة، وكرم غير مألوف في البيئة السياسية، المسيحية والمسلمة على السواء؟ (تستحق الذكر واقعة طلب راهبة رئيسة لمدرسة قرية بيت حباق – جبيل مساعدة من الرئيس الشهيد لإضافة جناح إلى المدرسة، ولم يشأ أن يتصرف كمن يسجل علامة على أحد، فأجابها أنّه سيقدم مقدار ما ستجمع من مراجع ومتبرّعين في طائفتها. لكنّها لم تعاود الاتصال. وبعد مدّة اتصل هو بها وعندما أدرك أنّها لم تتصل لعدم حصولها على شيء من الآخرين قدم لها تكلفة مشروع توسيع المدرسة كاملة).
فوق ذلك بنى الرئيس الشهيد مقرّاً لسكناه في عمق كسروان في فقرا، وشقّ أوتوسترادات وخطط لمشاريع في المناطق ذات الغالبية المسيحية حلّت الكثير من المشكلات، وكانت لتحلّ غيرها، مثل زحمة السير الخانقة على طريق بيروت – جونية لو لم يواجهه خصومه بحرب شعواء من الأكاذيب والمزاعم. أما في الاقتصاد فكان الوضع أفضل إذ سرعان ما أقبل رجال مال وأعمال على المشاركة في مشاريع عبّرت عن الثقة بشخصه ونهجه، مثل سوليدير وغيرها. وعندما تيّقن أنّ العقدة والحل يكمنان في بكركي ما إن سمحت الظروف في التفاهم مع سيدها الراحل البطريرك نصرالله صفير على رؤية مشتركة إلى لبنان. وقد تميز تعامله مع البطريرك بحنكة بعد التفاهم الضمني معه، عارفاً من يختار لإيصال الرسائل إليه وإبقاء خط الإتصال ساخناً.
لو كان حيّاً اليوم، الرئيس رفيق الحريري، لكان أُصيب بذهول
وفي هذه الواقعة نموذج: بعد التمديد لإميل لحود في 2004 استقبل الرئيس الشهيد، بناء على طلب منه، صديقه القديم الراحل سمير فرنجية، وكان مرّ وقت طويل لم يجتمعا، ومعه النائب آنذاك فارس سعَيد، وأبلغهما بأنّ السوريين يطلبون منه أن يترأس أول حكومة في الولاية الممدّدة لإميل لحود، وأنّه أجاب بعدم موافقته إذا لم يشارك “لقاء قرنة شهوان” القريب من البطريرك في هذه الحكومة ولذلك “لا توافقوا”، قال.
في اليوم التالي استقبل وفداً من “لقاء قرنة شهوان” ضمّ ثلاثة من أكثر أعضائه تشدداً، الشهيدين جبران تويني وأنطوان غانم والمحامي سمير عبد الملك، أبلغوه من دون مناقشة الفكرة حتى رفض “اللقاء” المشاركة، فأوصل الموقف إلى السوريين وانتهى عنده الموضوع.
ولربما كان الرئيس الشهيد يعبّر أوضح ما يكون عن نظرته إلى المسيحيين عندما كان يقول لبعض أصدقائه والقريبين منه ” تستطيعون أن تقولوا عن هذه الجماعة ما تريدون، لكنها لا تتخلى عن ثابتتين: سيادة لبنان واستقلاله، والنظام الاقتصادي الحر”.
لو كان حيّاً اليوم، الرئيس رفيق الحريري، لكان أُصيب بذهول!