رغبة لبنانيّة متجذّرة في الانتحار!

مدة القراءة 5 د


ليس تصرّف ما بقي من مؤسّسات الدولة اللبنانية حيال ممارسات الحزب في جنوب لبنان ومناطق أخرى سوى تعبير عن رغبة لبنانيّة متجذّرة في ممارسة الانتحار. هناك بلد يسعى عن سابق تصوّر وتصميم إلى إنهاء نفسه، وذلك منذ ما قبل توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في تشرين الثاني 1969، أي قبل ما يزيد على 54 عاماً.

في أساس الرغبة اللبنانية في الانتحار، وهي رغبة تزداد مع مرور الزمن، رفض التعاطي مع الواقع والحقيقة بدءاً بالاعتراف بأنّ لبنان حمى نفسه عندما رفض المشاركة في حرب حزيران 1967، وجنى على نفسه عندما وافق على توقيع اتفاق القاهرة. وقّع لبنان اتفاق القاهرة بعد أشهر قليلة من الإنزال الإسرائيلي في مطار بيروت الذي كانت نتيجته تدمير أسطول طائرات “طيران الشرق الأوسط”.

كان ذلك تحذيراً إسرائيلياً كشف أواخر عام 1968 أنّ لبنان لا يستطيع، من دون دفع ثمن غالٍ، السماح لنفسه بتحويل مطار بيروت لمكان ينطلق منه فلسطينيون ينتمون إلى منظمات محدّدة لخطف طائرات تقلع من هذا المطار الأوروبي أو ذاك. أصرّ لبنان على توقيع اتفاق القاهرة على الرغم من كلّ ما تبلّغه من تحذيرات. نجده يزداد إصراراً في سنة 2023، التي شهدت اندلاع حرب غزّة، على المضيّ في هذا الخطّ الانتحاري. يحصل ذلك من دون أن نجد في البلد سياسيّاً يسأل ما الذي يجنيه البلد من فتح جبهة جنوب لبنان، وإن ضمن قواعد معيّنة، في هذه الظروف بالذات؟

ليس تصرّف ما بقي من مؤسّسات الدولة اللبنانية حيال ممارسات الحزب في جنوب لبنان ومناطق أخرى سوى تعبير عن رغبة لبنانيّة متجذّرة في ممارسة الانتحار

لا وجود لكتلة نيابية شجاعة

يبقى أخطر ما في الأمر في المرحلة الدقيقة التي يمرّ فيها لبنان والمنطقة كلّها أن لا وجود لكتلة نيابية أو جبهة حزبية أو سياسيّة ذات وزن، كما كانت عليه الحال أيّام “لقاء قرنة شهوان”، تسمّي الأشياء بأسمائها.

لا وجود، إذا استثنينا “لقاء سيّدة الجبل”، لمن يقول إنّ لبنان يحترم قرارات المجموعة العربيّة في كلّ ما يخصّ حرب غزّة وليس أداة من الأدوات الإيرانية في المنطقة، هذه الأدوات التي تُستخدم على هامش حرب غزّة، التي تشهد وحشية إسرائيلية ليس بعدها وحشيّة، لتحقيق أهداف خاصة بـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، أهداف لا تمتّ بصلة إلى مصلحة لبنان واللبنانيين، لا من قريب ولا من بعيد.

لا يمكن لوم حكومة تصريف الأعمال الحالية في شيء، خصوصاً أنّها ليست سوى صدى للفراغ الذي يعاني منه لبنان على كلّ المستويات. عشعش الفراغ وتجذّر في كلّ مكان بعد وضع الحزب يده على مفاصل السلطة ومؤسّسات الدولة شيئاً فشيئاً منذ اغتياله رفيق الحريري في عام 2005، وهو أمر أكّدته المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان، ثمّ افتعال حرب صيف 2006… وصولاً إلى فرضه ميشال عون رئيساً للجمهوريّة مع ما استتبع ذلك من تأسيس لقواعد لعبة سياسية جديدة. في مقدّم قواعد اللعبة أنّ رئيس الجمهورية اللبنانية هو من تختاره “الجمهوريّة الإسلاميّة” ولا أحد غير هذه الجمهوريّة القائمة في إيران.

وقاحة “حماس لاند”

ليس البيان الأخير الذي أصدرته “حماس” عن تشكيل “طلائع طوفان الأقصى” في لبنان سوى خطوة أخرى على طريق تدمير لبنان وإظهاره على حقيقته، أي كجرم يدور في الفلك الإيراني. يُعتبر البيان تطوّراً في غاية الخطورة يعكس رغبة الحزب بإعادة الحياة إلى اتفاق القاهرة، على أن تحلّ “حماس لاند” مكان “فتح لاند”.

لا يمكن لوم حكومة تصريف الأعمال الحالية في شيء، خصوصاً أنّها ليست سوى صدى للفراغ الذي يعاني منه لبنان على كلّ المستويات

بوقاحة أعلنت حركة “حماس” في لبنان في بيان نشرته حديثاً على حساباتها الرسمية “تأسيس وإطلاق طلائع طوفان الأقصى”، داعية أبناء الشعب الفلسطيني إلى الالتحاق بصفوفها. تأتي الخطوة وفق البيان “تأكيداً لدور الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن وجوده في مقاومة الاحتلال بكلّ الوسائل المُتاحة والمشروعة (…) وسعياً نحو مشاركة رجالنا وشبابنا في مشروع مقاومة الاحتلال والاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم العلمية والفنّية”.

كان يمكن تصديق كلام مسؤول في “حماس” مقيم في لبنان عن أنّ الهدف من تشكيل “طلائع طوفان الأقصى” ليس قيام تنظيم عسكري جديد لولا أنّه سبق لـ”حماس” إعلان مسؤوليّتها عن إطلاق صواريخ من جنوب لبنان في اتجاه الجليل الأعلى، وذلك في مرحلة ما بعد اندلاع حرب غزّة. يدلّ ذلك على أمرين:

أوّلهما مدى سيطرة الحزب على جنوب لبنان، بما في ذلك منطقة عمليات القوّة الدولية المحدّدة، وهي منطقة قائمة بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 1701،

والآخر غياب القدرة لدى الحكومة اللبنانيّة على الوفاء بالتزاماتها، بما في ذلك فرض احترام القرار 1701.

نقص المناعة في منع الانتحار

لم يعد هناك في المجتمعين العربي والدولي من يصدّق أيّ كلمة تصدر عن الحكومة بعدما تبيّن أنّ الحزب يستطيع أن يفعل ما يشاء حيثما يشاء في كلّ الأرض اللبنانيّة. يشمل ذلك تحويل لبنان إلى مجرّد ورقة في الاستراتيجية الإيرانيّة المواكبة لحرب غزّة.

يؤكّد صمود لبنان كلّ هذه السنوات صلابة الصيغة اللبنانيّة التي يبدو أنّها وصلت حالياً إلى مرحلة استنفاد قدرتها على المقاومة في ضوء ممارسات تقف خلفها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. ورثت إيران الوصاية السوريّة على لبنان. لم تكن الوصاية السورية، في الأصل، سوى نتيجة طبيعيّة من نتائج الإصرار اللبناني على الذهاب إلى النهاية في الانتحار.

إقرأ أيضاً: عن رواية “حماس” الغائبة والمغيّبة: أين نجدها أصلاً؟

من مظاهر هذا الانتحار رفض أخذ العلم بغياب أيّ مبالاة أميركية بلبنان إلّا من زاوية واحدة. تتمثّل هذه الزاوية في عدم تحوّل أرض لبنان قاعدة تهدّد منها إيران إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر في سياق لعبة الابتزاز التي تمارسها مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.

مع حرب غزّة والبيان الذي أصدرته “حماس” من لبنان، يفقد البلد كلّ ما بقي لديه من مناعة، بما في ذلك مناعة التفكير في سبل وقف الرغبة الجامحة في الانتحار…

مواضيع ذات صلة

من 8 آذار 1963… إلى 8 كانون 2024

مع فرار بشّار الأسد إلى موسكو، طُويت صفحة سوداء من تاريخ سوريا، بل طُويت صفحة حزب البعث الذي حكم سوريا والعراق سنوات طويلة، واستُخدمت شعاراته…

سوريا: عمامة المفتي تُسقط المشروع الإيرانيّ

عودة منصب المفتي العام للجمهورية السوريّة توازي بأهمّيتها سقوط نظام بشار الأسد. هو القرار الأوّل الذي يكرّس هذا السقوط، ليس للنظام وحسب، بل أيضاً للمشروع…

فرنسا على خط الشام: وساطة مع الأكراد ومؤتمر دعم في باريس

أنهت فرنسا فترة القطيعة التي استمرّت اثنتي عشرة سنة، مع وصول البعثة الفرنسية إلى العاصمة السورية، دمشق. رفعت العلم الفرنسي فوق مبنى سفارتها. لم تتأخر…

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…