طوى محسن ابراهيم سنوات ثقيلة وطويلة ورحل. غادر أبو خالد مختزناً أسراراً وأمراراً، مختزلاً عهوداً عجافاً. آلى على نفسه عدم الظهور في أزمنة الإسفاف. هو الصامت لدهور، مهّد لرحيله مسار شهور، ترك بيروته وابتعد، في حزيران، شهر النكسة، الشهر الذي طواه في أيلول، حين حفر اسمه في تاريخ لبنان والعرب، ورفع راية “جبهة المقاومة اللبنانية الوطنية”.
وحزيران هو شهر خسائر الأحباب، أبو أنيس، جورج حاوي، وسمير قصير، وآخرين من صنوف الأحرار من كمال إلى أبي عمّار.
غاب محسن ابراهيم عن بيروت بعد أن غيّب نفسه عن غيبتها. تركها في غربتها، واختار اختزال جزء منسيّ من ذاكرتها، وما اختار أن يبوح بما يعرف، ولو فعل، لارتعدت أنفس وارتجفت فرائص.
إقرأ أيضاً: عن اختفاء محسن ابراهيم في “عتمة خياله”
هو آخر أقمار كوكبة جبهة المقاومة اللبنانية، كاتب أدهى البيانات السياسية في السبعينيات والثمانينيات. أضفى على السياسة رونقاً ورفعة، افتقدتها بغيابه وركونه إلى وحدته. وحين فقدت السياسة في لبنان الكثير من معانيها، انزوى وانطوى انفصالاً عن واقع هوى إلى حضيض، نظر إليه من صومعته، إلى أن ارتفع وارتقى، ملتحقاً بقافلة كان الحادي عشر في كواكبها.
أغنية الأطلال مشتركة بينه وبين وليد جنبلاط، الذي لم ينقطع عن التواصل مع أبي خالد، أو العرّاب والراعي في السنوات الصعاب. منذ ما بعد رحيل كمال جنبلاط إلى لحظة رحيله. وبرحيله، سيقف جنبلاط على أطلال جديدة، يغمره التاريخ، سائماً من حاضر التفاهة والانهيار، حيث يمضي كلّ الى غايته، وها إن القدر شاء.
أكثر ما يجمع بين الرجلين، الخيبات. انكفأ محسن ابراهيم بقرار تاريخي، وهو الأرفع من النزول على غرائب وعجائب متسلّقين متملّقين، تافهين وفارغين، واستمر وليد جنبلاط وسط كومة حرائق وركام
شاء القدر، أن يفقد جنبلاط، في أصعب مراحل لبنان، نصيراً معنوياً وروحياً، ليبقى وحيداً، في غابة عشواء، ديابها كثر، تنهش ما أمكن. تتراكم صعاب أبي تيمور، من خسارة الأب، إلى خسارة الرفاق، ياسر ورفيق، جورج حاوي، مروراً بخسارة والدته مي أرسلان، خير المعينين وأصلب الملهمين. آن لوليد جنبلاط أن يشعر باليتم، وهو الذي استحالت إليه أبوّة جيل يرثه جيل، لا حيلة في يده، ولا بوصلة.
لم يتخلّ جنبلاط عن مشورة محسن ابراهيم يوماً، اختلفت التقديرات والقراءات والحسابات، لكنهما كانا على خطّ بياني واحد. أجاد أمين عام منظمة العمل الشيوعي دور الأستاذ، وما ترك جنبلاط العلم يوماً. كان صاحب الرأي السديد، والمشورة الثاقبة في لحظات الحرج. عاش وهو يعتبر أنّ كمال جنبلاط أمانته، ووليد مضمون هذه الأمانة بمشروعها وطموحاتها التي تكسّرت نصالها على النصال، بين إسرائيلي وسوري، بعثي وفارسي.
أكثر ما يجمع بين الرجلين، الخيبات. انكفأ محسن ابراهيم بقرار تاريخي، وهو الأرفع من النزول على غرائب وعجائب متسلّقين متملّقين، تافهين وفارغين، واستمر وليد جنبلاط وسط كومة حرائق وركام. لا شيء يخفّف من خيبات محسن، بعد أن عصرته فلسطين. يغمض عينيه، وقد أغمض من قبله مناضلون كثر، ذبحوا في بندقيات شقيقة على مسارات مشاريع سياسية توسعية، ففقدت فلسطين النصير الحقيقي. وهو يغمض عينيه، ولا يشهد على ذبح فلسطين بكاملها في صفقة قرن، مهّد لها اجتياح سوريا وتمزيقها، إسقاط العراق وتجزئته، وارتحال العرب عن عروبتهم.
رحل محسن ابراهيم. كثر سيتيتّمون، ليس آخرهم وليد جنبلاط..