مُربكة المشاهد الخلفية لمقابلة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على قناة “فوكس نيوز” الأميركية. البحر الممتدّ في الشبّاك من خلفه، واللون الأبيض أمام البحر، وإعلان المذيع أنّهما على جزيرة “سندالة”، أوّل مشروع “في رؤية 2030″، تجعل المشاهد يحار إذا كانت هذه البقعة حقّاً في المملكة العربية السعودية.
بعدها قال بن سلمان كلاماً كثيراً عن بلاده، وكثيرون يسمعونه للمرّة الأولى. قال إنّها ستستضيف الألعاب الآسيوية الشتوية في 2029: “لدينا جبل ثلجي قريب من هنا. فالمملكة ليست فقط صحراء، بل فيها غابات ووديان وجزر مدارية وشعاب مرجانية وثلوج…”.
المقابلة مليئة بالدقّة والوضوح. لا مكان هنا للوعود “الذهبية” المنتشرة في المنطقة دون تنفيذ. حوار مليء بالوقائع والأرقام: “نحن الدولة الأسرع نموّاً في العالم في كلّ القطاعات”، يجيب ردّاً على سؤال: “كيف تدعو العالم إلى زيارة بلادك؟”. فيسأله الأمير الشابّ: “السعودية هي أعظم قصّة نجاح في القرن الـ21… فهل يريدون تفويت فرصة رؤيتها؟”.
هذه صورة جديدة عن السعودية لا تشبه صوراً كثيرة تعرّفنا إليها أخيراً. منها الوجهة الرياضية التي باتت “الرقم 1 في الشرق الأوسط”، وأنّها أحد أكثر بلاد العالم زيارةً: “في 2022 كنّا في المرتبة الـ 10 على مستوى الزيارات في العالم، مع 40 مليون زيارة. هدفنا 100 مليون زيارة في 2023 وربّما 150 مليوناً”.
40 مليوناً جاؤوا ليقتربوا من قصة النجاح هذه، ليلقوا نظرة على “أوروبا الجديدة”، كما سمّاها في 2018. وهو حلم يتقن فنّ تقديمه، والتسويق الصادق له. ولا يمكن للمشاهد إلا أن يترك رأسه للمقارنات مع زعماء المنطقة الآخرين.
نحن هنا أمام رجل متحرّر من ثقل أوهام الماضي، ومن أساطير الأيديولوجيا التي أطاحت بمدن عربية كثيرة وشرّدت الملايين، ولم يمسسهُ الإدمان المرضي على الوعود الكاذبة الذي تعاني منه المنطقة
أوهام الماضي… وسحر المستقبل
نحن هنا أمام رجل متحرّر من ثقل أوهام الماضي، ومن أساطير الأيديولوجية التي أطاحت بمدن عربية كثيرة وشرّدت الملايين، ولم يمسسهُ الإدمان المرضي على الوعود الكاذبة الذي تعاني منه المنطقة. فهذا يريد أن يمحو إسرائيل بسبع دقائق، وذاك يريد أن يبني دولة جديدة وهو مفلس، وذلك يريد تشريح بلاده ليأخذ منها “المفيد” له، ويترك بقية شعبه مشرّداً.
هذه طينة لم نعهدها في سدّة السلطة خلال القرون الأخيرة. وفي العقود الأخيرة عاش العرب في حروب لا تنتهي، تارةً بين الأنظمة العسكرية، وحيناً بين الجيران، وصولاً إلى الحرب السنّيّة الشيعية المفتوحة منذ عقدين، والتي جاء إلينا رجلٌ يسعى، من أقصى المستقبل، ليقفل جروحها ويبتسم لنا كأنّه طبيب المنطقة.
رجل يلبس الأبيض يحدّثنا عن النموّ والازدهار، عن المستقبل والسلام. رجلٌ يشبهنا… لكنّه من عالم آخر. يدعونا إلى ركوب قطار المستقبل. يقيم حفلاً يومياً ودائماً عنوانه “الالتحاق بالحضارة”. ويدفع قادة المنطقة وقادة العالم إلى ركوب ذلك القطار. يأتي برئيس أميركا ثمّ رئيس الصين ورئيس روسيا. يصافحهم كلّهم. يصادق فلاديمير بوتين، وحين يسأله مذيع “فوكس نيوز” عن وقوفه إلى جانب روسيا ضدّ أوكرانيا، يجيبه بالوقائع: “نحن صوّتنا في مجلس الأمن ضدّ اجتياح أوكرانيا”.
يحاججه بريت باير، وهو ليس مذيعاً عادياً، فهو كبير مذيعي القناة، وحاور رؤساء أميركا في العقدين الأخيرين، من جورج دبليو بوش إلى باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والدالاي لاما وهيلاري كلينتون… يحاججه: “رفعتم أسعار النفط في “أوبك بلاس” لتعزيز جهود روسيا في أوكرانيا. في حين يحاول العالم الضغط على بوتين للخروج من أوكرانيا”. فيجيبه الأمير: “لكن ماذا قال رئيس أوكرانيا؟ لقد قال عكس ذلك تماماً. قال إنّ السعودية تساند أوكرانيا وتلعب دور الوسيط وتسعى إلى حلّ سياسي. نحن نمتثل لقانون العرض والطلب، ونحاول الموازنة بينهما للمحافظة على الاستقرار”.
بجملٍ قصيرة ومحدّدة وواضحة، يختصر ضرورات الخروج من العداوة إلى المصالحة
إسرائيل وإيران
يعرف أنّ تطبيع السعودية مع إسرائيل إن حصل سيكون “أكبر اتفاق تاريخي منذ نهاية الحرب الباردة”. لهذا يريد “حلّ القضية الفلسطينية وتسهيل حياة الفلسطينيين وتأمين احتياجاتهم”، قبل أيّ اتفاق.
أمّا إيران “فلدينا معركة معها منذ 1979 ولا نريد أن يكون ذلك هو مصير الشرق الأوسط. إذا كان هناك فرصة لقلب الأمور والذهاب إلى الازدهار وبناء المصالح المشتركة.. فلمَ لا؟”.
هكذا بلا أحقاد الماضي ولا آلام الحاضر ولا جنون الرهان على مستقبل الانتصارات الدموية: “نحن قلقون من حصول أيّ دولة على سلاح نووي لأنّهم لن يستخدموه. أي دولة ستستخدم سلاحاً نووياً سيحاربها العالم كلّه. لا أحد يريد أن يرى 100 ألف قتيل. لكن إذا حصلوا عليه، يجب أن نحصل عليه، لحفظ التوازن”.
بجملٍ قصيرة ومحدّدة وواضحة، يختصر ضرورات الخروج من العداوة إلى المصالحة: “الازدهار Prosperity”. كلمة لها وقع الاطمئنان إذا وقعت على آذان من يعيشون في بلاد المهانة والخوف، بلاد الإفلاس من المال ومن الاحترام.
حين يتحدّث عن الممرّ الاقتصادي الكبير الذي أُعلن قبل أسابيع، ويربط الهند بالخليج ومنه إلى أوروبا، يقدّمه باعتباره فرصة للسلام أيضاً: “سيقلّل وقت نقل البضائع من الهند إلى أوروبا بين 3 و6 أيام، وهو مشروع يشمل شبكات الطاقة وكابلات البيانات وليس فقط سكك الحديد والموانىء، وسننتج طاقة خضراء وننقلها إلى أوروبا والهند”.
سنغيّر ألف قانون
“نريد الاستثمار في اليمن، حتّى لو لم نصل إلى حلّ سياسي بعد”. لا مكان للحقد في لغته: “يجب أن تكون كل دول المنطقة مستقرّة ونريد حياةً طيّبة لليمنيين ولكل دول المنطقة لنحقّق أهدافنا، نريد استقراراً في العراق واليمن وإيران، فعندما تضطرب المنطقة يخرج “داعش” و”القاعدة” والإرهاب والقراصنة”.
هكذا بالكثير من الوضوح: “الشيء الوحيد الذي لا يتغيّر في السياسة: هو التغيير”. قاموسه شديد التكثيف في جمله. كأنّ في عقله فريقاً لغوياً، لا فرداً واحداً.
“نسعى إلى إعادة هيكلة النظام الأمني والقضائي. نحاول تغيير القوانين. لدينا 150 محامياً. غيّرنا عشرات القوانين وهناك ألف قانون قيد البحث. هل لدينا قوانين سيّئة؟ نعم. هل نحاول تغييرها؟ نعم أيضاً”.
غسل السمعة بالرياضة
نصل إلى الرياضة:
– “أين كنت خلال مباراة فوز السعودية على الأرجنتين؟”.
– يجيب: “كنت مع إخوتي وزوجاتهم وأولادنا نشاهد المباراة”.
ومنها يدخل المذيع إلى سؤال حول اتّهامه بـ”غسل السمعة عبر الرياضة”. فيجيبه بالأرقام: “السياحة تحتاج إلى تطوير قطاعات الثقافة والترفيه والرياضة. والسياحة كانت تساهم في 3% من الناتج القومي، وارتفعت إلى 7%. الرياضة كانت تساهم بـ0.4% واليوم 1.5%. أي المزيد من الوظائف والنموّ والترفيه والسياحة. نحن اليوم الرقم 1 في الشرق الأوسط. قبل 6 سنوات لم نكن في لائحة العشرة الأوائل حتّى… وإذا كان غسل السمعة عبر الرياضة سيرفع ناتجنا القومي بـ1% فسنستمرّ به”.
إقرأ أيضاً: محمّد بن سلمان: ثورة حتى “العصر” الحديث..
بعد السياسة تنتهي المقابلة خلال “كزدورة” على الجزيرة قيد البناء، ويسأله عن هواياته:
– “ألعاب الفيديو. فهي تفصلني عن الواقع لساعات”.
هنا يقدّم نفسه واحداً من جيل الألفية الجديدة. لكن حتّى هذا الجانب فيه رؤية استثمارية:
– “الرياضة الإلكترونية واحدة من أكبر الصناعات نموّاً في العالم: 30% سنوياً، وأرباحها 15% إلى 25% سنوياً”. ليس هذا وحسب: “إنّها تنافس هوليوود. أحد صنّاع المحتوى لديه مليارا مشاهدة”.
نخرج من مقابلة مدّتها 36 دقيقة، مكثّفة ومليئة بالأرقام والنسب والتحدّيات والأحلام. تعرضها منصّة “شاهد”، التي أضافت إلى اسمها شعار “صُنِعَ في السعودية”. المنصّة والأحلام والرجل، كلّها صناعة سعودية.
كأنّه أفضل ما عرضتهُ “شاهد” منذ تأسيسها.
حوار لنصف ساعة يختصر مستقبل المنطقة، بِعَرَبِها وفُرسها ويَهودها.
في نصف ساعة قدّم لنا هذا الرجل اقتراحاً لمنطقة خالية من الحروب، عنوانها الازدهار والتنمية. هو صديق أميركا والصين، إيران، أوكرانيا وروسيا، الشرق والغرب، صديق للسلام، النفط والإنتاج غير النفطي والطاقة الخضراء، وخطوط الإمداد والمستقبل… رجل بدا لنصف ساعة كأنّه من كوكبٍ آخر.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@