رايح عالنظام الرئاسي والناس راجعة

مدة القراءة 5 د


لا يفوّت الرئيس ميشال عون فرصة للتعبير عن شهواته لنظام رئاسي. يعرف أنّه وصل إلى قصر بعبدا “والناس راجعة”، كواحد ممّن ينتمون سياسياً ووظيفياً إلى جيل ما قبل اتفاق الطائف. أما زعامته، فتكوّنت في عزّ فوضى الانتقال بين جمهوريتين، ثم المنفى.

لذا تراه يعامل الرئاسة كشيخ جمعته الأقدار بحبيبة لم ينلها في زمن الصبا. يداعبها، يلاعبها ويتجاوز عن ذكر التاريخ. لا تعنيه التجاعيد الدستورية التي حفرت خطوطها على وجه الرئاسة. لا يعنيه ترهّل المفردات التي صنعت هالة الرئاسة، وقدّها الميّاس، فيحتفظ منها بمفردة “العهد” التي ما عادت تعني شيئاً بعد اتفاق الطائف. فالعهد ليس مصنعاً للسياسة، بل هو مجلس الوزراء مجتمعاً. وإذا ما امتلأت الكرسي الثالثة باستثناء كرفيق الحريري صار هو المجلس وهو الوزراء والدولة و… العهد.. بحيث لا يبقى من حلّ لمواجهته سوى الاغتيال!!

حتّى في شكواه القليلة، يتحسّر الرئيس عون على ما آلت إليه رئاسة الجمهورية اللبنانية، كما عاشها وفهمها وحلم بها.

إقرأ أيضاً: لبنان محجور في “كرنتينا” حزب الله

غير أن الدساتير تفاصيل مملّة لمن هو مثل الرئيس عون. يعتقد أنه على موعد دائم مع التاريخ. عوائق أشبه بمطبّات هوائية أمام جموح “الرجل التاريخي”، يكفي التحايل عليها بالاستدارة أو الارتفاع.

ما لا تتيحه الصلاحيات يُستعاض عنه بالسلوك الشخصي. تصرّفْ كأنك رئيس في حقبة ما قبل الطائف وسيعتاد الناس على ذلك. أما الصلاحيات، فيُستخرج من المتوفّر منها أقصى ما يمكن استخراجه، بليّ عنق المواد والمفردات، والتوسّع في تحميل نيّات المشرع وذمّته ما يحتمل وما لا يحتمل.

فها هي مقدّمة الدستور اللبناني تتحدّث عن التعاون بين السلطات. وها هو اللجوء إلى صندوق النقد الدولي يستوجب أعلى مراتب التوافق السياسي بين المكوّنات.   

والتعاون والتوافق يستوجبان اللقاء، على الرغم من حظر التجوّل الكوني الذي فرضه الجنرال كورونا موكلاً للسيد “زووم” أمر تنظيم التواصل بين البشر، عبر الفيديو.

دعوة عون رؤساء الكتل النيابية للقاء في بعبدا لوضع قوى المجلس في صورة الخطة الاقتصادية للحكومة، تندرج في هذا السياق “الشهواتي” لنظام رئاسي بالقوة، وتنطوي على رغبة دائمة بتهميش رئاسة الحكومة، وتصادر ما هو دورها الطبيعي. خذْ على سبيل المثال، عزيزي القارئ، الفارق الجوهري بين جلسات الحكومة التي تعقد في السراي وتلك التي تعقد في بعبدا. يغلب طابع التشاور والتداول على الأولى وطابع القرار على الثانية. لا قرارات كبيرة تؤخذ في جلسات السراي. القرار في بعبدا. السراي مقرّ “اللجنة التحضيرية” وليس مقرّ رئاسة الحكومة، أو هكذا جُعل منها.

أذكر كاريكاتوراً للراحل بيار صادق من حقبة الرئيس إميل لحود، يصوّر فيه جلسة لمجلس الوزراء في بعبدا والرئيس رفيق الحريري إلى يمين رئيس الجمهورية يغنّي “إيمتى الزمان يسمح يا إميل”، لاعباً على رائعة عبد الوهاب وأمين عزت الهجين: “إيمتى الزمان يسمح يا جميل”. تختلف محاولات الاعتداء على رئاسة الحكومة في خلفياتها بين ذلك الزمن والزمن الحالي، بالتأكيد، وتختلف الأدوار والأحجام، لكنّ الشيء بالشيء يُذكر.

ما يسمح بدوام هذا الخلل، هو الشذوذ الدستوري في عقد جلسات للحكومة في السراي ما يبرّر شذوذاً مقابلاً في عقد جلسات في بعبدا. فالسراي هي مقرّ رئيس الحكومة وليس مقرّ مجلس الوزراء، الذي نصّ الطائف على أن يكون له مقرّ منفصل يجتمع فيه مجلس الوزراء، (مقرّه شبه المهجور كائن في شارع المتحف) بحسب الفقرة الخامسة من المادة 65 من الدستور، والتي نصّت على أنْ «يجتمع مجلس الوزراء دورياً في مقرّ خاصّ، ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر». فترؤّس رئيس الجمهورية لمجلس الوزراء يستوجب حضوره، لا استدعاء الناس إلى بعبدا!!

حزب الله الذي صوّت على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بعد طول ممانعة، يحتاج أكثر من الرئيس عون، لمشهدية وطنية جامعة تغطّي الخيار الذي أخذته “حكومته”، حتّى لا يتحمّل وحده الوجع الذي يأتي دوماً مع برامج صندوق النقد

أما اختيار الرئيس عون يوم الأربعاء لدعوة رؤساء الكتل فغير بريء، حيث إنّ الأربعاء هو اليوم الذي يفتح فيه رئيس المجلس النيابي مكتبه لـ”يوم الأربعاء النيابي”.

المسألة بالطبع أكبر من مسألة مقرّ أو اختيار يوم محدّد للقاء في بعبدا. ما نحن أمامه هو مسار عام ينطوي على شهوات استئثارية، هي الميزة الأوضح لمسار العونية السياسية، حتّى في خريفها.

بديهي أن يتوقّع المرء مستوىً أعلى من الاستنفار السياسي في مواجهة “مذكّرات الجلب الرئاسية” لقوى البرلمان، عما هو قائم حالياً. “تيار المستقبل” قاطع، ووليد جنبلاط أعلن أنّه سيرسل ممثّلاً عنه، كذلك “الزيبق” نجيب ميقاتي، فماذا عن “القوات”؟

لكنّ الواضح أنّ حزب الله نفَّس هذه الحالة، “بالتفاهم” مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على التطرية، ما يُصعّب المزايدة النيابية على رئيس المجلس برفض الصعود إلى بعبدا.

فحزب الله الذي صوّت على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بعد طول ممانعة، يحتاج أكثر من الرئيس عون، لمشهدية وطنية جامعة تغطّي الخيار الذي أخذته “حكومته”، حتّى لا يتحمّل وحده الوجع الذي يأتي دوماً مع برامج صندوق النقد!

على ظهر هذه الحاجة عند حزب الله تتسلّق شهوات رئاسية.

أحد الظرفاء، ممن يريدون التخفيف من وطأة قرار رئيس المجلس بمسايرة حزب الله وقبوله “التمريك” على المجلس ورئيسه يقول:

“لا تحمّلوا الأمور أكثر مما تحتمل. لم يعد طموح الرئيس عون إعادة بناء نظام رئاسي، بقدر ما يريد أن يدرأ عن عهده صفة الشؤم التي لازمته، من انهيار الاقتصاد إلى كورونا وما بينهما!”

الرئيس يريد استضافة الصورة التي تقول:

يا شعب لبنان العظيم، لست عهد الشؤم، وها هي بوادر “حرب الإلغاء” على الانهيار الاقتصادي تنطلق من عندي، ومثلها “حرب تحرير” مستقبل اللبنانيين وعملتهم ورزقهم.

يريد صورة فقط. أعطوه الصورة.

 

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…