في حين كان البحث جارياً عن مهاجرين غير شرعيين غرق مركبهم مقابل شاطئ شكّا، في شمال لبنان، كان البابا فرنسيس الثاني في مرسيليا، على الضفّة الأخرى من المتوسط، يُعلي الصوت من أجل قضيّة المهاجرين واللاجئين والنازحين…
لبنان والرئاسة في لقاء البابا – ماكرون
حوالي ثلاثين ساعة قضاها البابا في مدينة مرسيليا المتوسطيّة. كانت زيارة تاريخيّة. فهي الأولى لحبر روماني منذ 500 سنة. برنامجها كان مكثّفاً. بدأه البابا بعد ظهر يوم الجمعة 22 أيلول بلقاء المشاركين في “اللقاءات المتوسطيّة” في كنيسة “سيّدة الحماية” التي تقع على تلّة مشرفة على البحر وعلى المدينة المتنوّعة إثنياً وحضارياً وثقافياً ودينياً وطائفياً. في اليوم التالي ألقى خطابه في ختام “اللقاءات المتوسطيّة” في “قصر فارو” المطلّ على مرفأ المدينة التاريخيّ بحضور الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون.
حوالي ثلاثين ساعة قضاها البابا في مدينة مرسيليا المتوسطيّة. كانت زيارة تاريخيّة. فهي الأولى لحبر روماني منذ 500 سنة. برنامجها كان مكثّفاً
بعد الخطاب التقى البابا الرئيس الفرنسي في خلوة استمرّت ساعة. حرص البابا على إظهار ابتسامة عريضة أمام العدسات. ربّما لتكذيب كلّ ما صدر في الصحف قبل الزيارة وخلالها عن عدم تلبيته الدعوات المتكرّرة لزيارة فرنسا والخلاف مع ماكرون على العديد من الملفّات، وأبرزها: المهاجرون غير الشرعيين، والحرب في أوكرانيا، وصناعة الأسلحة، والبيئة، والملفّ الرئاسي في لبنان، الذي حضر في لقاء الرجلين بحسب مصادر الإليزيه. فالفاتيكان يدعو إلى انتخاب رئيس قادر على جمع اللبنانيين. بينما الإليزيه تبنّى مرشّح الثنائي الشيعيّ الذي ترفضه غالبية اللبنانيين، من المسيحيين.
المتوسّط: تقاطع الحضارات والثقافات والديانات
كانت لموضوع المهاجرين غير الشرعيين المساحة الكبرى في خطاب البابا. انطلق من الكلام عن مرفأ مرسيليا التاريخيّ الذي استقبل المهاجرين عبر التاريخ، وبينهم اللبنانيون، ثمّ تطرّق إلى تاريخ البحر المتوسط وحاضره.
قال عنه إنّه “مرآة العالم”: “التبادل بين الشعوب جعل المتوسط مهد الحضارات، وبحراً زاخراً بالكنوز”. فهو تاريخياً “مساحة تلاقٍ بين الديانات الإبراهيمية، وبين الأفكار اليونانيّة واللاتينية والعربيّة، وبين العلم والفلسفة والحقوق…”. وهو اليوم “يشكّل تقاطعاً بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب”. ولكنّه تحوّل في العقود الأخيرة إلى “بحر الموت” للمهاجرين غير الشرعيين الذين زادت أعدادهم مع تفجّر الصراعات والحروب في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المطلّة على المتوسط.
ابن مهاجر إيطاليّ
كان هذا الموضوع حاضراً في كلّ محطات البابا فرنسيس في مرسيليا. ومن المعروف أنّه قضيّة أساسيّة في حبريّته منذ انتخابه (2013)، وإضافة إلى التعاليم المسيحيّة للبابا، هناك دوافع شخصيّة في تركيزه على موضوع المهاجرين. فهو ابن مهاجر إيطالي كاد أن يقضي في عرض المحيط الأطلسي لو صعد في عام 1925 على متن الباخرة التي غرقت وقضى فيها أكثر من 500 مهاجر. إلا أنّ عدم حيازته الأوراق الكافية حال دون ذلك. ولكنّه بعد عامين هاجر إلى الأرجنتين (1927). كلّ هذا مترسّخ في ذاكرة خورخي ماريو برغوغليو الذي هو اليوم بابا الفاتيكان.
غاب العلم الفرنسي عن قاعة الاجتماعات في “قصر فارو”، على الرغم من حضور ماكرون في لقاء البابا، وحضر العلم اللبناني إلى جانب علم مرسيليا والعلم الفاتيكانيّ. اتّشحت به فتاة لبنانيّة أنشدت باللغة السريانيّة
مشكلة المهاجرين الأساسيّة في دولهم
على خلاف السائد منذ 2013، ليس خطاب البابا عن المهاجرين موجّهاً للدول التي يقصدها هؤلاء فقط. إنّما أيضاً للمسؤولين في الدول التي يغادرونها هرباً من “العنف، والاضطهادات وغياب العدالة”. في خطابه في مرسيليا سأل أسقف روما: “من يسمع صرخات الوجع التي تصدر من شمال إفريقيا والشرق الاوسط؟”، ومن يسمع “صرخة الألم، التي تُحوّل البحر المتوسط إلى بحر الموت، ومهد الحضارات إلى مقبرة الكرامة (البشريّة)”.
يعلم البابا جيّداً ديكتاتورية نظام الأسد ووحشيّته اللتين دفعتا بملايين السوريين إلى الهجرة خارج البلاد وداخلها هرباً من ظلمه وبراميله المتفجّرة. وهو على اطّلاع جيّد على فساد الطبقة السياسيّة اللبنانيّة التي تدفع بالآلاف إلى الهجرة قسراً هرباً من بلاد الأرز. لذلك لم يزُر لبنان في عهد ميشال عون. فهو لم يُرِد أن يعوّم عهداً بائداً حوّل لبنان إلى “جهنّم”، على الرغم من الأهمية التي يويليها البابا فرنسيس للدول الصغيرة خاصّة تلك المطلّة على البحر المتوسط.
دعوة لاستقبال المهاجرين
ينطلق البابا فرنسيس في مقاربته موضوع المهاجرين غير الشرعيين ممّا قاله يسوع في الإنجيل: “… وكنت غريباً فآويتموني”. من هنا دعوته الدول إلى استقبال المهاجرين غير الشرعيين والعمل على انخراطهم في المجتمع. ليست دعوته الإنسانيّة هذه إلغاءً للحدود بين الدول ولا تجاهلاً لهويّاتها القوميّة ولا انتقاصاً من سيادتها على أراضيها. إنّما هي دعوة إنسانيّة أمميّة. وفي الوقت نفسه هي دعوة إلى معالجة أساس المشكلة في الدول التي يغادرها المهاجرون والتي تدفع بهم لأن يتركوا أرضهم ومجتمعهم ويرموا بأنفسهم في المجهول
ماكرون مرتبكاً
بعد خطابه الرسمي ولقائه الرئيس ماكرون، كان البابا على الموعد الأحبّ إلى قلبه. لقاء أبناء رعيّته البسطاء والفقراء. منذ قبل ظهر السبت 23 أيلول بدأوا ينتشرون على جانبي الطريق المؤدّي إلى ملعب المدينة حيث احتفل بالقدّاس. أتى البابا من الجهة البحريّة. ترجّل من سيّارته المتواضعة. صعد إلى الـ”بابا موبيلي”. حيّا وبارك مستقبليه في “جادّة برادو”. وفي الملعب كانت صرخات المؤمنين تهزّ المدرّجات وكأنّنا في نهائيات مباراة عالميّة. وكانت أياديهم وأجسادهم المتّشحة بالأزرق تتموّج على المدرّجات وكأنّها موج بحر.
دخل البابا الملعب على وقع التصفيق والهتاف. بينما دخله الرئيس الفرنسيّ من دون أن يلاحظه أحد. لم يُخصَّص له ولزوجته مقاعد في مقدّمة الحضور. بدا مرتبكاً، وكأنّه لا يريد الظهور في قدّاس البابا بسبب الانتقادات التي وجّهها إليه اليسار الفرنسيّ لأنّه رئيس دولة علمانيّة! وكأنّ المسؤول في الدولة العلمانيّة يجب أن يكون “بلا دين”!
إقرأ أيضاً: البابا في مرسيليا: زيارة للمدينة المتوسطيّة لا للدولة الفرنسيّة
الحضور اللبنانيّ
كان لبنان حاضراً وفاعلاً في “اللقاءات المتوسطيّة” وفي زيارة البابا لمرسيليا. شارك في اللقاءات أساقفة أتوا من لبنان. وألقى مطران صربا المارونيّة بولس روحانا محاضرة عن التعدّدية اللبنانيّة التي تبدو مهدّدة اليوم في ظلّ الظروف السياسيّة التي تعيشها البلاد ووجود أكثر من مليونَي نازح (سوري) ولاجئ (فلسطيني) يهدّدون بتغيير ديمغرافي له تداعيات جيوسياسيّة.
غاب العلم الفرنسي عن قاعة الاجتماعات في “قصر فارو”، على الرغم من حضور ماكرون في لقاء البابا، وحضر العلم اللبناني إلى جانب علم مرسيليا والعلم الفاتيكانيّ. اتّشحت به فتاة لبنانيّة أنشدت باللغة السريانيّة. وشارك كهنة وشباب جامعيون وأبناء الرعيّة المارونيّة اللبنانيون في التنظيم والحضور.