من يراقب حركة اجتماعات السراي الحكومي المتعلّقة بمستقبل الدعم، والآليّات البديلة التي يمكن أن تفضي إلى ترشيده أو تقليصه، يدرك سريعاً أنّ الحكومة وفرق عملها ليست بصدد اتخاذ القرار الموجع، خصوصاً أنّ كلّ ما نتج عن تلك الاجتماعات بدا أقرب إلى دراسات تحليليّة تستعرض البدائل المتوفّرة مع توصيات ضبابيّة، دون أن ترقى إلى اقتراحات واضحة المعالم. وعلى مستوى رئيس الحكومة نفسه، يبدو من الواضح أنّ دياب لا يتّجه إلى توسيع نطاق تصريف أعمال حكومته ليطال اتخاذ قرارات من نوع المسّ بـ “الدعم”. وهو ما يعني ترك أمر حسم هذه الخيارات إلى الحكومة الجديدة، فيما سيقتصر دور حكومة تصريف الأعمال على حركة الاجتماعات غير المنتجة حتّى الآن.
ما يقوم به دياب حتّى اللحظة هو إعداد لُغم لينفجر على طاولة خلفه بعد تشكيل الحكومة واتّخاذ القرار القاسي، خصوصاً أنّ دياب نفسه يدرك حجم التداعيات التي ستلي اتّخاذ القرار، سواء من الناحية المعيشيّة أو من ناحية ردّة الفعل في الشارع. وفي الوقت نفسه، فإنّ أحد أسباب تفعيل فرق عمل الحكومة ودراسة مسألة وقف الدعم من عدمه، لم يكن سوى ردّة فعل على نشاط المجلس النيابي، وانعقاد لجان مشتركة تنتظر من حكومة تصريف الأعمال رؤية ما فيما يخصّ هذا الملف. لكنّ النتيجة كانت تملّص دياب من تقديم أيّ مقترح حاسم، يمكن أن يحمّله على المستوى الشعبي تبعات هذا القرار، فردّ كرة النار إلى المجلس النيابي دون أن يتخذ موقفاً واضحاً.
ما يقوم به دياب حتّى اللحظة هو إعداد لُغم لينفجر على طاولة خلفه بعد تشكيل الحكومة واتّخاذ القرار القاسي، خصوصاً أنّ دياب نفسه يدرك حجم التداعيات التي ستلي اتّخاذ القرار
في ختام ورشات العمل، اكتفى المجتمعون ببعض التوصيات التي تضمّنت مثلاً “دراسة آلية كيفيّة تخفيض الفاتورة النفطيّة”، مع العلم أنّ هذه الفاتورة بالذات كلّفت الدولة ما يقارب 2.06 مليار دولار خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري. وضبابيّة هذه التوصية وعدم اقتراحها أيّ إجراء عملانيّ، لم تعكس سوى التخبّط الذي شهدته مناقشات هذا البند بالذات. خصوصاً أنّ مقترح استيراد المحروقات من العراق، وفق تسهيلات معيّنة، اصطدم بعدم وجود أيّ عرض عراقي رسمي حتّى اللحظة. وحين جرى اقتراح تقنين الكهرباء، اكتشف الحاضرون أنّ ما ستوفّره مؤسسة الكهرباء من دولارات في هذه الحالة سيستهلكه مازوت اشتراكات المولدات الخاصّة. أما الحاضرون من القطاعات التي تتعاطى بيع وتوزيع المحروقات، فرفعوا صرختهم تحذيراً من المساس بالدعم. وهكذا، كانت النتيجة بنداً فضفاضاً لا يتضمّن أيّ معالجة ملموسة للقدر الذي يستنزفه دعم استيراد المحروقات من دولارات مصرف لبنان.
في مكان آخر، تقرّر “تسريع دراسة البطاقة التموينيّة”، مع العلم أنّها بحدّ ذاتها تحوّلت إلى مشكلة خلال المناقشات، تُضاف إلى كلّ إشكاليّات آليات رفع الدعم. فمصرف لبنان غير مستعدّ لتمويل البطاقة من دولاراته، كون ذلك سيعني استمرار النزف من احتياطاته. والدولة لا تملك الميزانيّة اللازمة لتمويل بطاقات من هذا النوع، فيما لن يعني الاقتراض من مصرف لبنان لتمويل هذه البطاقات سوى المزيد من طباعة النقود بالليرة والمزيد من التهاوي في سعر الصرف. مع العلم أنّ الحكومة، ورغم حديثها عن وجود لوائح أوليّة للعائلات الأشدّ فقراً التي يمكن أن تستفيد من البطاقات، لا تملك حتّى اللحظة رؤية متكاملة لإدارة هذا الملفّ، خصوصاً أنّ إعداد القوائم النهائيّة لاحقاً سيدخل سريعاً في أتون التجاذبات الحزبيّة على خلفيّة تحاصص هذه البطاقات.
وعلى هذا النحو، سارت باقي توصيات ورشة محاولة ترشيد الدعم، التي شملت مثلاً توصية من قبيل “تأمين مقوّمات استنهاض القطاعين الزراعي والصناعي”. مع العلم أنّ الجلسات لم تتضمّن مقترحاً واحداً ملموساً في هذا الإطار. خصوصاً أنّ دعم القطاعات الإنتاجيّة يتناقض من حيث المبدأ مع مسار سيفضي في المحصّلة إلى رفع أسعار المحروقات التي تدخل ضمن كلفة الإنتاج.
في مكان آخر، تقرّر “تسريع دراسة البطاقة التموينيّة”، مع العلم أنّها بحدّ ذاتها تحوّلت إلى مشكلة خلال المناقشات، تُضاف إلى كلّ إشكاليّات آليات رفع الدعم. فمصرف لبنان غير مستعدّ لتمويل البطاقة من دولاراته، كون ذلك سيعني استمرار النزف من احتياطاته
كان من الواضح أنّ هذا البند تمّت إضافته شكليّاً، خصوصاً أنّ الحديث عن دعم الإنتاج يستوجب أوّلاً تأمين استقرار نقدي على مستوى سعر صرف الدولار الذي بات يؤثّر على أسعار المواد الأوليّة، ويتطلّب استقراراً في القطاع المالي لتمكين المؤسسات المنتجة من استعمال سيولتها فيه لاستيراد هذه المواد.
إقرأ أيضاً: فشل مدوٍّ لـ”الدعم”: التضخم 120% في 8 أشهر
في كلّ الحالات، يفترض أن يكون هذا الملفّ حاضراً في أولى اجتماعات الحكومة المقبلة إذا تشكّلت، لتتخذ القرار بنفسها وتتحمّل تبعاته في الشارع. مع العلم أنّ ضيق الفترة المتبقية قبل استنفاذ الاحتياطي القابل للاستخدام في مصرف لبنان من الدولارات، قبل الوصول إلى مرحلة المساس بالاحتياطي الإلزامي، لن يعني سوى حشر الحكومة الجديدة وفرض عمليّة رفع الدعم أو ترشيده دون أن يكون هذا المسار جزءاً من خطة أشمل على مستوى التعامل مع الأزمة.
كان يمكن مقاربة ملف الدعم منذ أشهر كجزء من خطة إصلاح مالي ونقدي متينة، تفضي إلى توحيد أسعار الصرف على مراحل وبشكل مضبوط ومنظّم، وترك سعر الصرف يتأرجح وفقاً لهوامش مقبولة. لكنّ تجاهل هذه المسألة طوال الفترة الماضية وفرض اتّخاذ القرار الآن بشكل سريع سيعني فعليّاً دفع البلاد إلى مرحلة تقليص أو رفع الدعم بشكل عبثي غير منظّم، وهو ما سيعني مضاعفة الآثار الاجتماعيّة الناتجة عن هذا المسار.