“منذ بداية هذا العام، كانت لدينا تقارير أمنيّة عن أنّ حركة “حماس” تحضّر لشيء ما. وكانت معلوماتنا أنّ التحضير يتمّ بدعم وتدريب وتمويل من إيران والحزب. بعدها تغيّرت أمور كثيرة ووصلنا إلى حيث نحن الآن. لكنّنا بتنا مطّلعين على كلّ ما كان يحضَّر، كما على ماذا حصل فعلاً بين هجوم 7 أكتوبر واليوم. وبالتالي لدينا القدرة الكاملة على رسم مسار ما سيأتي”.
هذا ما يكشفه مصدر دبلوماسي خليجي رفيع المستوى مقيم في عاصمة أوروبية لـ”أساس”، راوياً تفاصيل وخلفيّات حرب غزة وما بعدها، وصولاً إلى لبنان والوضع في الجنوب واستحقاق قيادة الجيش والرئاسة.
يقول المصدر لموقعنا إنّ المتابعة كانت دقيقة لكلام خليفة قاسم سليماني، إسماعيل قاآني، عن مفهوم “وحدة الساحات”، وإنّه كانت لدينا معلومات مفصّلة عن محاولة أولى فشلت في عاصمة عربية، ثمّ حصلت الاجتماعات في بيروت لتنفيذ تلك الفكرة.
بعدها ومع مطلع سنة 2023 بدأت تردنا تقارير أمنيّة عن تدريبات يجريها عناصر من “حماس” تحت إشراف الحزب على الحدود اللبنانية السورية. وهو ما طرح لدينا تساؤلات عن أهداف هذه التدريبات. فإذا كان هدفها داخل سوريا، فهم موجودون هناك بشكل كامل. وإذا كان هدفها لبنان، فالجميع يعلم أنّه تحت السيطرة الأمنيّة الكاملة للحزب. وبالتالي لا وجود لأيّ هدف سياسي أو عسكري أو أمنيّ يستحقّ تدريبات مشتركة بين الحزب والحركة تمهيداً لمهاجمته.
بعدها بدأنا نرصد حركة نقل أسلحة وأعتدة باتجاه المخيّمات الفلسطينية في لبنان. فكانت الإشارة الأولى إلى أنّ الحدث سيكون فلسطينياً.
يربط الدبلوماسي الخليجي بين التطوّرات الأمنيّة تلك، وبين ما كان يحصل على المستوى السياسي في المنطقة. فالقراءة المتوازية بين المستويين تكشف الأغراض الحقيقية.
في هذه الأثناء أُعلن عن اتفاق بكين بين الرياض وطهران الذي شكّل تقدّماً كبيراً لمساعي التهدئة في المنطقة ونقل الأمور إلى مجال العمل السياسي وليس إلى المجالين الأمني والعسكري. وبشكل متزامن كانت الرياض في حركة ناشطة مع قمم الرئيس الصيني والأميركي، وهو ما كرّسها موقعاً أساسياً في إدارة المنطقة والعالم. وبدأ الكلام عن محاولة أميركية لإطلاق مسار سلام جديد، يشمل القضية الفلسطينية، من ضمن تصوّر لحلّ شامل للصراع.
يربط الدبلوماسي الخليجي بين التطوّرات الأمنيّة تلك، وبين ما كان يحصل على المستوى السياسي في المنطقة. فالقراءة المتوازية بين المستويين تكشف الأغراض الحقيقية
في هذا السياق جاء وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت، قبل اتفاق بكين وبعده. ونقل رسالة واضحة إلى الثنائي الشيعي بأنّ طهران لن تخالف الرياض إطلاقاً في لبنان. وبالتالي فإنّ أيّ مرشّح رئاسي يريده الحزب، ويواجَه برفض سعودي، لن تمشي به طهران.
وفيما هذا الكلام يصل إلى عواصم الخليج، كان يستمرّ التسليح والتدريب حتى اندلعت أحداث عين الحلوة. فتكوّن انطباع أنّ الهدف هو السيطرة على قرار الانتشار الفلسطيني، تمهيداً للضغط على أيّ مشروع تسوية على خطّ واشنطن – الرياض.
حين جاء هجوم 7 أكتوبر أدركت عواصم الخليج أنّ الأمر أبعد بكثير، وأنّ الخطة كانت فعلاً تكريس مفهوم “وحدة الساحات” الإيرانية، من اليمن إلى غزة مروراً بقوس العراق وسوريا وجنوب لبنان.
يتابع الدبلوماسي المطّلع كلامه بالقول إنّ ما أسقط المخطّط هو تدخّل إدارة بايدن بهذا الشكل الردعيّ الحاسم. فوصول القطع البحريّة مع حشد غربي ضخم إعلامياً وسياسياً وعسكرياً، والكلام عن رسائل أميركية مباشرة لطهران بأنّ أيّ حركة من قبلها ستواجَه بردّ أميركي مباشر عليها، أدّيا إلى تراجع طهران عن مخطّطها، فاكتفت بأن ساهمت في التدريب والتسليح والتمويل، ولم تلتزم مرحلة التنفيذ. وهذا ما جعل عدّة أصوات من قياديّي “حماس” يوجّهون انتقادات علنيّة إلى طهران، على خلفية أنّهم كانوا ينتظرون منها أكثر. وهذا ما ردّت عليه طهران بتنصّلها من أيّ دعم ميداني، بحجّة أنّ “حماس” لم تشركها في تحديد الساعة الصفر للهجوم.
تشكّل هذه النقطة بالذات عامل إدانة للطرفين لأنّها تكشف منسوب عدم الثقة بينهما، بحيث اعتبرت الحركة أنّ أيّ تشارك مع إيران في موعد الهجوم قد يتمّ تسريبه إلى إسرائيل من ضمن صفقة بيع وشراء إيرانية محتملة.
المهمّ أنّ الأمور وصلت إلى هنا. فتدخّلت الرياض ودعت إلى قمّتها التي شكّلت حدثاً في مسار المعركة. فللمرّة الأولى منذ قيام نظام الملالي، جاء الرئيس الإيراني إلى قمّة تقول بمبدأ حلّ الدولتين، وبمشروع السلام العربي وفق مبادرة قمّة بيروت للسلام سنة 2002، مع التأكيد أنّ الممثّل الشرعي للفلسطينيين هي منظمة التحرير الفلسطينية. حتى إنّ ما قيل بعد قمّة الرياض عن تحفّظات إيرانية على بيانها لا معنى له، فهو للاستهلاك الإيراني الداخلي، وسقفه هو حدود التجاذبات بين مواقع النفوذ وأجنحة السلطة في طهران. أمّا ما حصل رسمياً في قمّة الرياض فهو أنّ الرئيس الإيراني وافق على كلّ ما سبق.
يعكس هذا الأمر الجانب البراغماتي جدّاً في السياسة الإيرانية، على عكس الانطباع السائد عن دوغماتية متشدّدة، فطهران تتصرّف وفق موازين القوى وبما يضمن مصالح نظامها لا غير.
أمّا عن لبنان فيقول المصدر الدبلوماسي لـ”أساس”: نحن أمام وضعية متطابقة بين إسرائيل والحزب. الاثنان باتا أسيرَي خطاباتهما. وهما اليوم في وضعيّة الشلل الكامل
أمّا الرياض فكانت تؤمن منذ البداية بأنّ الصراع العربي الإسرائيلي والصراع الفلسطيني الإسرائيلي هما من نوع الصراعات الهيغليّة، أي لا حلول نهائية لهما كأنّهما جزء متلازم لحركة التاريخ نفسها. وبالتالي فإنّ أقصى ما يمكن ويجب العمل عليه هو إدارة سياسية جيّدة لهذا الصراع تنقله في كلّ مرحلة من مستوى إلى آخر أفضل. وهذا فعلاً ما كانت تقول به واشنطن نفسها في زمن ريغان. وهو ما تحاول الرياض تكريسه بالتقدّم التدريجي المتواصل صوب تحقيق الحقوق الفلسطينية الكاملة بعيداً عن جنون الخطابات التي تقول مثلاً إنّ سقوط 50 ألف فلسطيني أمر مقبول أو محتمل، وإنّه يمكن تعويضهم. هذا كلام مناقض للمفاهيم الإنسانية، لا بل قد يشجّع التوحّش الإسرائيلي الذي أظهره نتانياهو بشكل سافر مجنون.
أثبتت رؤية الرياض صوابها. فهي جمعت كلّ العالم العربي والإسلامي حولها. صحيح أنّ تعنّت واشنطن جعلها تتوقّف في محطة مجلس الأمن. لكنّ الرياض ستنقل المعركة إلى الجمعية العامّة للأمم المتحدة. وهناك ستكون الأكثرية المؤيّدة لحقّ فلسطين مضمونة، ولو لم يحمل القرار مفاعيل تنفيذية. لكنّ من قال إنّ إسرائيل تنفّذ أصلاً قرارات مجلس الأمن؟! المهمّ أنّه سيكون نصراً جديداً لقضية فلسطين وفق الرؤية العربية للحلّ من على أعلى منبر أمميّ.
أمّا عن لبنان فيقول المصدر الدبلوماسي لـ”أساس”: نحن أمام وضعية متطابقة بين إسرائيل والحزب. الاثنان باتا أسيرَي خطاباتهما. وهما اليوم في وضعيّة الشلل الكامل، أو وضعية Catch-22، كما يصفها علم المنطق والسياسة، حيث لا يمكن لأيّ طرف أن يقوم بأيّ خطوة، لا تقدّماً ولا تراجعاً. وهذه نتيجة خطاب وسلوك نهج الهروب إلى الأمام منذ أعوام.
من جهتها الرياض حريصة ومعنيّة بشكل كامل بتحصين ساحاتنا العربية، من مصر والأردن إلى لبنان.
في بيروت عملنا منذ سنة بالتعاون مع الخماسية لإعادة تكوين السلطة اللبنانية وتحقيق استقرار الدولة.
للأسف أنّنا أضعنا 9 أشهر نتيجة خطأ أحد الموظّفين الفرنسيين، الذي أوقع باريس في خطأ حسابات. المهمّ أنّنا استعدنا الآن الخطّ الصحيح. وهو الخطّ القائل بأنّنا لا ننوب عن اللبنانيين ولا نتكلّم باسمهم أو نفرض عليهم، بل نوفّر لهم مظلّة الحماية الدولية ليعبّروا هم عن إرادتهم بشكل حرّ.
حتى خلال زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي لودريان الأخيرة، وتأكيده هذا الموقف الموحّد باسم الخماسية، قالت له إحدى الشخصيات الدبلوماسية المعنيّة: كيف نتكلّم عن إجماع للخماسية فيما يُحكى في بيروت أنّ الموفد القطري يطرح مرشّحاً رئاسياً مستجدّاً وحديث الترشيح بالاسم؟ فأكّد لودريان أنّ هذا غير صحيح، وأنّه استوضح الأمر شخصياً من الشيخ محمد بن عبد الرحمن، رئيس وزراء قطر ووزير خارجيّتها، فنفى رسمياً وبشكل قاطع.
إقرأ أيضاً: “الخماسيّة” بقوّة “ثلاثيّة”: رئيس مطلع العام المقبل
دور الخماسية هو مساعدة اللبنانيين على بلورة إرادتهم في إنقاذ بلدهم. ولذلك نحن نعتبر أنّنا أمام امتحان مفصليّ في هذا السياق هو محطة التمديد لقائد الجيش لبقائه في موقعه، كضرورة وطنية للاستقرار والأمن. إذا مرّ هذا الاستحقاق بشكل إيجابي فسيكون مؤشّراً جيّداً إلى براغماتية الحزب الملاقية لبراغماتية طهران من اتفاق بكين إلى قمّة الرياض.
لذلك تتوقّف الخماسية باهتمام شديد عند استحقاق بقاء قائد الجيش في موقعه، وتعتبره مفتاحاً مفصليّاً لمقاربة المرحلة المقبلة.
بعده تعود الخماسية إلى الاجتماع نهاية كانون الثاني أو مطلع شباط. لم يحدد بعد مكان الاجتماع، ولا مستواه. لكنّ أجندته معروفة. وهي اختصار دفتر الشروط الرئاسية إلى حدّها الأدنى. وبالتالي بلورة شبه كاملة لشخصية الرئيس المطلوب.
بعدها يعود لودريان على الأرجح إلى بيروت ناقلاً تلك الخلاصات، وعارضاً آليّة تنفيذها عبر سلسلة تشاور بين القوى المعنيّة، تليها فوراً جلسة انتخاب مفتوحة في ظلّ إشراف دوليّ مباشر.
الإشارة الأولى غداً الخميس في مجلس النواب. بعدها تتّضح الأمور أكثر. وقد تستغرق بضعة أسابيع لتنضج نهائياً.