لافت طبعاً تحرّك عناصر داعش والموساد بهذه الكثافة والحماسة في المدن التركية. ليس عاديّاً أن تقوم الأجهزة الأمنيّة التركية بهذا العدد الضخم من عمليات المطاردة والتوقيف ضدّ خلايا وعناصر الطرفين. موسم التحريض والاستفزاز والاستهداف وتسخين الأجواء التركية في ذروته وسط أجواء البرد القارس الذي يعصف بإسطنبول وأنقرة. لا يكاد ينتهي النهار أو تبزغ شمس يوم جديد حتى نسمع أنباء المزيد من حملات المداهمة والاعتقال في صفوف عناصر “تنظيم الدولة” و”دولة التنظيم – الموساد” التي تنشط في المدن التركية.
وسط تدابير أمنيّة مشدّدة التقت من جديد الجماعة المداومة على قدّاس يوم الأحد في كنيسة “سانتا ماريا” الرومانية الكاثوليكية، وذلك بعد مضيّ أسبوع على الهجوم الإرهابي الذي نفّذه عنصران في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأسفر عن سقوط قتيل وعدّة جرحى. بالمقابل واصل الادّعاء العامّ تحت حراسات أمنيّة مكثّفة والأجهزة الأمنيّة التركية التحقيق مع العشرات من المعتقلين والموقوفين بتهمة العمل لجهاز الموساد الإسرائيلي.
تبنّى داعش الهجوم المسلّح في إسطنبول، فيما أعلنت السلطات إلقاء القبض على منفّذي الاعتداء مساء اليوم نفسه، إلى جانب حوالي 50 شخصاً من المشتبه بهم. أمّا الموساد الإسرائيلي فسيواصل إنكار علاقته بعشرات الموقوفين من الذين جنّدهم للتجسّس على الجاليات العربية والمؤسّسات التركية وجمع المعلومات عن الأماكن الدينية ودور العبادة والمؤسّسات والجمعيات الإسلامية في تركيا.
التواصل الاستخباريّ التركيّ – الإسرائيليّ مستمرّ
توتّرت العلاقات السياسية الدبلوماسية التركية الإسرائيلية منذ أشهر بسبب ما يجري في قطاع غزة، لكنّ التواصل بين أجهزة الاستخبارات في البلدين لم ينقطع. كيف سيكون شكل الحوار بين الممسكين بهذا الخيط الرفيع الباقي بعدما كشفت أنقرة عن كلّ هذه الخلايا الناشطة باسم إسرائيل فوق أراضيها؟ في موضوع “داعش” الأمور تختلف. فهناك خلايا نائمة هربت باتجاه الأراضي التركية بعد تلقّي التنظيم العديد من الضربات، فبدّلت الأسماء والهويّات وحاولت التخفّي في مناطق بعيدة عن الأعين مستفيدة من الجذور العرقية والدينية واللغوية في أحيان كثيرة.
اختلطت الأرقام ببعضها في الآونة الأخيرة وباتت تحتاج إلى تدقيق ومراجعة مفصّلة لعدد الموقوفين بتهم التجسّس للاستخبارات الإسرائيلية والمتّهمين بالولاء لداعش الإرهابي
نجحت أجهزة الأمن والاستخبارات التركية في توقيف كوادر بارزة في التنظيم أعطت الأوامر وأشرفت على التخطيط والتوجيه، إلى جانب العثور على الكثير من الوثائق التي تسهّل الوصول إلى العديد من القيادات داخل تركيا وخارجها. الأمر ينطبق على عملاء الموساد الذين جنّدهم بكثافة عن بعد بانتظار أن يختار المناسب منهم بعد انقضاء فترة الاختبار. لكنّ هناك الكثير من الأسئلة التي تنتظر أجوبة سريعة من الأجهزة الأمنيّة والسياسية: أوّلاً لا بدّ من معرفة كيف نجحت قيادات داعش والموساد في تجييش هذا العدد الكبير من الخلايا داخل المدن التركية، وكيف تمكّنت هذه العناصر من التخفّي طوال هذه الفترة، وما الذي يدفعها لاستهداف الداخل التركي والتآمر على من يفتح أبوابه أمام من يقول إنّه لاجىء أو مهاجر أو قدم ليحتمي من غضب أنظمة دوله وقياداتها.
تنشط بقايا مجموعات تنظيم داعش للتذكير بنفسها وهي تتابع عن كثب ما يجري في أفغانستان وقطاع غزة والعراق وسوريا، في محاولة لجني ثمار ارتدادات ما يدور على الجبهات هناك، وللإعلان أنّها ما زالت على قيد الحياة على الرغم من المطاردات والاعتقالات وتضييق الخناق على عناصرها. يحاول الموساد من جانبه عبر تجييش هذا العدد من العملاء في تركيا التأثير في مواقف وسياسات وقرارات أنقرة الأمنيّة والجغرافية وحساباتها الاقتصادية وعلاقاتها الاستراتيجية، والإعلان أنّه قادر على اختراق الساحات التي يريد وإلحاق الضرر بها. لذلك أتت ردّة الفعل الأمنيّة والاستخبارية التركية واسعة لمواجهة طموح داعش والموساد داخل تركيا وخارجها وتوقيف العشرات من المشتبه بهم والمتّهمين من الأتراك والعرب والأجانب الذين أدلوا باعترافات مثيرة حول طرق التجييش والتدريب والمهامّ التي قاموا بها.
مطعم “سوشي” خلية داعشية..
تعاني تركيا منذ سنوات بسبب صعودها الإقليمي وحلمها في الجلوس إلى الطاولات الاستراتيجية للدفاع عن مصالحها، من ارتدادات نشاط الكثير من أجهزة الاستخبارات فوق أراضيها وتحرّك العديد من المجموعات الإرهابية التي تستهدفها في الداخل والخارج. لذلك تابعنا قبل أيام العملية السادسة من نوعها التي تنفّذها الأجهزة الأمنيّة التركية خلال عام تقريباً ضدّ مجموعات تعمل للموساد الإسرائيلي، ومثلها في مواجهة خلايا داعش التي تستيقظ فجأة من سباتها للتذكير بنفسها. تفكيك شيفرات الرسائل الإلكترونية المتبادلة لعب دوراً كبيراً في الوصول إلى شبكات العملاء “أونلاين”.
تقول تل أبيب إنّها بريئة من التهم وإنّ أنقرة تحاول الزجّ باسم جهاز استخباراتها للإساءة إليه. لكنّ الاعترافات والمعلومات المقدّمة بالتفصيل حول التجنيد والتمويل والتواصل مع عملاء الموساد في الخارج كلّها موثّقة بيد الأجهزة التركية.
اختلطت الأرقام ببعضها في الآونة الأخيرة وباتت تحتاج إلى تدقيق ومراجعة مفصّلة لعدد الموقوفين بتهم التجسّس للاستخبارات الإسرائيلية والمتّهمين بالولاء لداعش الإرهابي. في ملفّات داعش ولمن يقول إنّ تركيا لا تحارب بما يكفي هذه المجموعات، كشفت المصادر عن آخر الأرقام التي تشير إلى التحقيق مع الآلاف وتوجيه عقوبات مختلفة لستّة آلاف بينهم ألف داعشيّ في السجون التركية اليوم. خلايا نائمة في مطعم صيني يعدّ السوشي في إسطنبول تتحوّل إلى مجموعات إرهابية بعد إيقاظها من سباتها برسالة إلكترونية مشفّرة تأمرها بالتوجّه نحو الهدف. في الشهر الأوّل من العام الجديد وحده تمكّنت الأجهزة الأمنيّة من توقيف حوالي 100 متّهم بالولاء لداعش أو العمل للموساد الإسرائيلي. هذا الرقم لا يشمل عناصر حزب العمال الكردستاني وخلاياه. وهذا ما يعكس حجم الاستهداف ومحاولة استغلال الجغرافيا التركية للقيام بعمليات تجسّس أو تفجيرات أو اغتيالات.
احتمال التقاء العشرات من سجناء بقايا داعش وعملاء إسرائيل في زنزانات واحدة وارد جداً على الرغم من صعوبة الكشف عن القواسم المشتركة في الرسائل المشفّرة والتوجيه والإشراف اللذين قد يكون مصدرهما مراكز واحدة تدار من الخارج. ما يبحث البعض عنه في أنقرة هو احتمال وجود ترابط بين تحرّكات الطرفين وسط هذا التوقيت والتزامن والإصرار على الاستهداف. الغامض هو مسألة احتمال أن تكون عناصر داعش تتحرّك تحت غطاء “طابور سلمان الفارسي” أو “تشكيل خراسان” لتقديم خدمة لأحد ما عبر استهداف الداخل التركي في هذه المرحلة الصعبة والحسّاسة التي تعيشها عواصم المنطقة على أكثر من جبهة. هل للتطوّرات السياسية والأمنيّة في الإقليم، وخصوصاً على جبهة غزة، ومحاولة الانتقال بالحرب إلى جبهات أخرى علاقة بإيقاظ مجموعات “داعش” من سباتها وربّما من قبل الموساد الإسرائيلي؟
إقرأ أيضاً: تركيا أمام “محاولة انقلاب” أميركية – إسرائيلية؟
داعش والموساد: تبادل خدمات
لن تستبعد السلطات التركية احتمال تبادل الخدمات بين داعش والموساد في استهداف الداخل التركي حتى لو تحرّكا فوق خطّين متوازيَين لا يلتقيان وكان مثل هذا السيناريو بين المستحيلات. أهداف داعش والموساد تلتقي هنا في أكثر من مكان: استغلال انشغال تركيا بمحاربة عناصر حزب العمال الكردستاني، واستقبالها لمئات الآلاف من اللاجئين والوافدين من الخارج المنتشرين في مدنها، فيسقط عناصر مهمّشون لا قيمة ووزن لهم في مصيدة مشغّليهم، الذين يعطونهم ما يريدون، من أجل خلق البلبلة والفوضى وتوتير علاقات تركيا مع الخارج عبر إظهارها في وضعية البلد الضعيف غير الآمن.
يقول المنطق إنّ من المفترض أن تكون المواجهة بين مجموعات داعش والموساد الإسرائيلي فوق جغرافيا إقليمية واسعة، لكنّنا لم نسمع بذلك أو نشاهده بعد. فرضيّة العكس هو الصحيح قد تصحّ هذه المرّة. مصالح الطرفين وأسباب تقاربهما في مواجهة تركيا تتقدّم على أسباب التباعد والخلاف. الردّ التركي على داعش متواصل في المدن التركيّة وسوريا والعراق. لكنّ شكل ارتدادات ما يجري على العلاقات التركية الإسرائيلية المتوتّرة أصلاً غير واضح بعد.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Profsamirsalha@