خطة الحكومة المالية التي أعدتها “لازارد” شُجاعة في الإقرار بالخسائر، غير أن الأرقام المكتوبة بالحبر السري بين السطور أخطر مما انشغل به الرأي العام في الأيام الماضية. كم ستبلغ نسبة “الهيركت”، أو الـ bail-in؟ أو سمّها ما شئت؟
تورد الدراسة رقماً مثيراً للاهتمام، هو 83.2 مليار دولار. هذا هو إجمالي الخسائر التي ستتكبّدها البنوك، وفق الدراسة، من ثلاثة مصادر: توظيفاتها لدى مصرف لبنان، وقروض الأفراد والشركات المتعثّرة، والدين الحكومي المتعثّر. وتفترض أنه بعد استخدام كامل القاعدة الرأسمالية للبنوك لإطفاء الخسائر، أي 20.7 مليار دولار، يبقى 62.4 مليار دولار لا بدّ أن يتحمّلها أصحاب الودائع بشكل أو بآخر، إما عبر استبدال جزء من الودائع بأسهم في البنوك، أو عبر منح المودعين وحدات في صندوق تعويضات.
إقرأ أيضاً: الدولار بين الحزب/سلامة/المصارف.. مكتّف: 3000 سعر عملي
لِنَدَع جانباً، لبعض الوقت، النقاش حول دقّة الرقم المقدّر للخسائر، وهو 83 مليار دولار، ولنبحث بين سطور الخطة الحكومية عن تصوّرها لكيفية توزيع الأعباء.
المطلوب إذاً اقتطاع 62.4 مليار دولار من أصل 101.7 مليار دولار، هي مجمل أرصدة الحسابات الدولارية التي يتجاوز كلٌّ منها مئة ألف دولار
تعيد خطة الحكومة التذكير بالتزام قطعه رئيس مجلس الوزراء حسان دياب، بحفظ أموال تسعين في المئة من المودعين، ما يُترجَم في الأرقام المتداولة باعتماد حدّ المئة ألف دولار لعدم المسّ بالحساب. إذ إن الدراسة التي أعدّتها لجنة الرقابة على المصارف تشير إلى أن 91% من الحسابات تحوي في رصيدها مئة ألف دولار أو أقل، كما في 15 شباط 2020.
ووفق الدراسة السالفة الذكر، يبلغ عدد الحسابات التي يفوق رصيدها 100 ألف دولار نحو 245 ألف حساب، تحوي 127 مليار دولار (انخفض الرقم بمقدار 5.4 مليار دولار مقارنة بنهاية 2019). لكن هذه لن يشملها كلّها الاقتطاع، بل الأرجح أن يستثني الحسابات بالليرة، ليشمل الحسابات الدولارية فقط، أي نحو 101.7 مليار دولار، تحويها 178 ألف حساب (على افتراض أن عدد الحسابات الدولارية يشكّل 73% من الإجمالي).
المطلوب إذاً اقتطاع 62.4 مليار دولار من أصل 101.7 مليار دولار، هي مجمل أرصدة الحسابات الدولارية التي يتجاوز كلٌّ منها مئة ألف دولار.
تبقى هنا عقدة تقنية، وهي أن نسبة الخصم لا يمكن أن تكون متساوية بين جميع الحسابات، وإلا وقع ظلم كبير على من في حسابه شيء قليل فوق حدّ المئة ألف دولار. فمن يملك 99 ألف دولار ينجو تماماً، بينما من يملك 101 ألف دولار ربما يخسر 70%، فينتهي الأمر به أقلّ ممن كان يملك 50 أو 70 ألف دولار. الحلّ لهذه المعضلة أن تستثنى من الخصم أول مئة ألف دولار من جميع الحسابات، وهكذا لا تحتسب نسبة الخصم على مبلغ الـ 101 ألف دولار مثلاً، بل على الألف دولار فقط. وفق هذه الطريقة، تستثنى من الخصم 17.8 مليار دولار إضافية (178 ألف حسابx مئة ألف دولار).
في المحصّلة، المطلوب وفق الدراسة الحكومية وتقديراتها للخسائر والقاعدة التي ألزم بها دياب نفسه، يفترض أن يتمّ اقتطاع 62.4 مليار دولار من أصل 83.9 مليار دولار. أي أن نسبة الاقتطاع ستصل إلى 74.3 في المئة. هذه النسبة هي الحدّ الأدنى، وهي مرشحة للارتفاع، لأن الخطة لم تأتِ على ذكر عاملين مهمّين:
• عمليات التصفية المتقابلة (netting) التي ستسبق الاقتطاع، بحيث إنه لا بدّ أن يصفّي أصحاب الودائع ما لديهم من قروض قبل تطبيق نسبة الخصم عليهم.
• ضرورة استثناء ودائع الشركات والجهات الحكومية والدبلوماسية، لأنها تخضع لأحكام مختلفة.
لنفترض أن هذين العاملين سيقلّصان الوعاء الذي سيشمله الخصم بنحو أربعة مليارات دولار. سيؤدي ذلك إلى ارتفاع نسبة الخصم المطلوبة إلى 78% من كلّ ما يفوق المئة ألف دولار في الحسابات الدولارية.
الخيار الثاني أقرب إلى الوعد الزائف. فحجم الأموال المقتطعة ضخم جداً، إلى حدّ يجعل من الوهم تَوَقُّعُ تعويضِ نصفه أو ربعه أو أقل من خلال عملية قضائية لاسترداد الأموال المنهوبة
وتبقى هذه النسبة مرشحة للارتفاع مع استمرار التغيّر في نسب الودائع. فالمقارنة بين بيانات 28 كانون الأول 2019 وبيانات 15 شباط 2020 تكشف عن تراجع سريع لرصيد الودائع التي تفوق المليون دولار بقرابة الأربعة مليارات دولار. كما تكشف عن اتجاه لدى المودعين لتوزيع أرصدتهم على عدد أكبر من الحسابات للنجاة من مقصلة الاقتطاع.
السؤال المهمّ الآن: ما الذي سيحصل عليه المودعون في مقابل الاقتطاع من حساباتهم؟
تطرح الخطة خيارين للتعامل مع أموال المودعين:
• الأول: استبدال الأموال المقتطعة بأسهم في البنوك (bail-in). المشكلة في هذا الخيار هي نسبة التعويض المنخفضة للغاية. فالمليارات الاثنان والستون ستستبدل بأسهم لن تزيد قيمتها الدفترية على عشرة مليارات دولار في أحسن الأحوال. أي أن كلّ ستة دولارات لن تُعوّض بأكثر من دولار واحد، هذا إذا توفّرت السبل لتسييل الأسهم!
• الخيار الثاني، وفق الخطة، يقضي بإنشاء صندوق، يتردّد أنه سيطلق عليه اسم “صندوق النهوض” للتعويض على المتضرّرين، وتقسيم الودائع إلى ثلاث فئات:
1- فئة الودائع الصغيرة (غالباً تلك التي لا تزيد على مئة ألف دولار)، وهذه تبقى في البنوك على حالها.
2- فئة الودائع الكبيرة، وهذه “يمكن أن تقدّم مساهمة على أساس إيرادات الفوائد المرتفعة” التي جنتها، وفق نص الخطة. أي إنها ستتحمّل عبء الـ .bail-in
3- فئة من الودائع المتوسطة الحجم وبعض الودائع الكبيرة، يُعطى لأصحابها الخيار بالتحوّل إلى صندوق التعويضات، أو صندوق النهوض، بمعنى أن الأموال المقتطعة منها تُعوَّضُ بوحدات (units) في الصندوق، تتيح لهم الحصول على تعويضات تدريجياً على المدى البعيد، حتى سقف معيّن يحدّد لاحقاً. ويعتمد الأمر على ما يرِدُ إلى الصندوق من إيرادات من “استراتيجية مكافحة الفساد”، لا سيما من استرداد الأموال المنهوبة، أو من بيع بعض الأصول الحكومية.
الخيار الثاني أقرب إلى الوعد الزائف. فحجم الأموال المقتطعة ضخم جداً، إلى حدّ يجعل من الوهم تَوَقُّعُ تعويضِ نصفه أو ربعه أو أقل من خلال عملية قضائية لاسترداد الأموال المنهوبة. وحتى الخصخصة، لا يمكن بأيّ حال أن تجني للدولة أكثر من عشرة إلى خمسة عشر مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، هذا إذا تجاوزت العقبات السياسية، ووجدت طريقها إلى التنفيذ بكفاءة متناهية.
لنعد الآن إلى النقاش حول الفرضيات التي أسّست عليها الحكومة تقديراتها لخسائر القطاع المصرفي بـ 83 مليار دولار.
لا تورد الخطة تقسيماً مباشراً لمصدر الخسائر، لكن يمكن تجميعها واستنتاجها من أجزاء أخرى في نص الخطة، وهي على النحو التالي:
• 54.9 مليار دولار ناجمة عن شطب توظيفات البنوك لدى مصرف لبنان، نتيجة عملية إعادة هيكلة مصرف لبنان والاعتراف بخسائره المتراكمة على مدى سنوات.
• 13.8 مليار دولار ناجمة عن تعثّر القروض الممنوحة للقطاع الخاص (من أفراد وشركات).
• 14.5 مليار دولار ستكون حصيلة “الهيركت” أو الخصم من السندات الحكومية، أي من الدين العام اللبناني، نتيجة عملية إعادة الهيكلة التي تعتزم الحكومة التوصّل إلى اتفاق في شأنها مع الدائنين المحليين والأجانب.
الفرضيات التي بُنيت عليها تقديرات الخسائر تحتاج إلى نقاش تقني، لا سيما في ما يتعلّق بمصرف لبنان، لأن الرقم المقدر للخسائر كبير جدا، ويفوق كل التقديرات السابقة من وكالات التصنيف الدولية ومن الخبراء المحليين. ومن دون الاستغراق في هذا الجدل، فإن الرقم يبدو مبالغاً فيه، لأن البند الإشكالي الأكبر في ميزانية مصرف لبنان، والذي يحمل الجزء الأكبر من الخسائر، وهو بند “الموجودات الأخرى”، لا يتجاوز بمجمله 31 مليار دولار، فمن أين أتى رقم الـ 55 مليار دولار، من دون إجراء عملية تدقيق؟ وهل يوافق مصرف لبنان على هذا الرقم؟ أم أن في الأمر ما يختلط بالغايات السياسية؟
وحين يتعلّق الأمر بالدين الحكومي، ثمة نقاش يجب أن يُفتح حول مسؤولية السلطة السياسية التي استدانت الأموال من البنوك ومصرف لبنان، أي من ودائع الناس، وأهدرتها على فسادها وسوء تدبيرها، ثم تأتي الآن لتطلب شطب الدين وتحميل الخسائر للمودعين، من أن دون أن تتحمّل مسؤولية القذارات التي اقترفتها.
وإلى أن يُفتح هذا النقاش الجدي يمكن لحسان دياب أن ينشغل بالحسابات والنسب. غير أن لبّ النقاش في مكان آخر. خلف كل شريحة تعريف يتعدّى أرقام الأرصدة. إنها رقمٌ ما في موازين السياسة. بعضها يزن الكثير في السلطة والنفوذ، وبعضها يزِنُ في صناديق الاقتراع. لا يمكن لأساتذة الجامعات أن يقرروا في الشأن، خصوصا حين ينذرهم أهل السياسة بأنهم يمسّون “المقدس”.
قرار توزيع الخسائر قد لا يأتي إلا بعد صراع كبير، ليس فيه بيت حرام ولا شهر حرام.