خطة الحكومة تُحوّل الشحّاذين إلى “صرّافين غير شرعيين”

مدة القراءة 6 د


كانت الخطة التي وضعتها الحكومة بالاتفاق مع مصرف لبنان ونقابة الصرّافين وبمساعدة الأجهزة الأمنية، ترمي إلى خفض سعر صرف الدولار ومكافحة المتلاعبين بسعر الليرة. الخطّة تسمح لكلّ مواطن لبناني بالحصول على 200 دولار أميركي من الصرّافين، بسعر الصرف المحدّد من مصرف لبنان للأفراد وفق التسعيرة التي تضعها نقابة الصرّافين صباح كل يوم (حُدّدت صباح أمس بـ3850 للشراء و3900 ليرة للمبيع)، فيما المستندات المطلوبة لإتمام هذه العملية: صورة عن بطاقة الهوية ورقم الهاتف فقط.

إقرأ أيضاً: خطة فاشلة لضخّ الدولار: آلية بطيئة… و”شفط” سريع والمستقبل للنموذج الفنزويلي..

لكن يبدو أنّ هذه الخطة أتت بنتائج عكسية تماماً، بعد أن بات واضحاً أنّها حوّلت جزءاً كبيراً من المواطنين اللبنانيين المتعطشين للعملة الخضراء، إلى “صرّافين غير شرعيين” يمتهنون المضاربة اليومية من أجل الحصول على بضعة آلاف من الليرات في جيوبهم.

الخطّة فتحت الباب أمام عدد من الصرّافين لابتكار أساليب جديدة للتلاعب بسعر الصرف وإعادة “شفط” الدولارات التي يحصلون عليها، بعدما يوزّعونها على المواطنين المفترضين

مئات المواطنين في كلّ المناطق اللبنانية اصطفوا في طوابير منذ ساعات الصباح الأولى عند أبواب الصرّافين على مدى اليومين الماضيين. وقد انتشرت على مواقع التواصل صورٌ مذيّلةً بعبارات الحزن والأسى لمشاهد الطوابير الطويلة والتدافش المهين.

المؤسف في هذه الخطّة أنّها فتحت الباب أمام عدد من الصرّافين لابتكار أساليب جديدة للتلاعب بسعر الصرف وإعادة “شفط” الدولارات التي يحصلون عليها، بعدما يوزّعونها على المواطنين المفترضين.

مصدر صيرفي كشف لـ”أساس” أنّ بعض الصرّافين يستدعون أهاليهم وأصدقاءهم للاصطفاف أمام محالهم من أجل شراء الـ200 دولار. وبالاتفاق المسبق، أو بالعرض والطلب. يشتري مساعدون لهؤلاء الصرّافين تلك الدولارات على بعد أمتار أو عند الأرصفة المقابلة، لكن بسعر أعلى، هو 5000 ليرة لبنانية. والهدف طبعاً أن يبيعها الصرّاف مجدّداً في “السوق السوداء” بسعر 5200 أو أكثر، ليربح الفارق. ويكون الصرّاف قد وسّع نشاطاته بهذه الطريقة، ليصير “المواطنون” شركاء له في “العملية الجديدة”.

ألم يكن أَولى بيع المصارف المحلية هذه الدولارات من أجل مدّ المواطنين المحتاجين فعلاً للدولارات، من خلال حساباتهم المصرفية؟

مصدر صيرفي آخر في منطقة البقاع قال لـ”أساس” إنّ المتسوّلين والمتسوّلات في الشوارع، “تحوّلوا بدورهم من التسوّل إلى مهنة المضاربة”، فاصطفوا أمام الصرّافين من أجل كسب الهامش بين سعر “السوق السوداء” وسعر النقابة المقدّر بنحو 220 ألف ليرة، والذي فاق مدخول “الشحادة” اليومي بأضعاف مضاعفة… فأمسى هذا الفعل بمثابة “مهنة لمن لا يملك مهنة!”. فلا يعود معروفاً الشحّاد من الصرّاف، والمواطن من الشحّاد.

لكن ربّ سائل يسأل: “وما مصلحة الصرّافين في ذلك طالما أنّهم يخسرون 1100 ليرة في الدولار الواحد في لحظات؟”.

الجواب بسيط: بهذه الطريقة يحصل الصرّاف على إثبات يبرّر فيه أمام مصرف لبنان آلية بيعه الدولارات “المدعومة” للمواطنين بالسعر المحدّد، كي يضمن إمداده بالمزيد منها في اليوم التالي. لكنّ الأهم من هذا كله أنّ للصرّاف “زبوناً خفيّاً” مستعدٌّ لشراء هذه الدولارات بـ5200 و5300 ليرة لبنانية، ولهذا يعاود شراءها بسعر مرتفع!

هذا الأمر يفتح أبواب النقاش واسعةً عن سبب موافقة مصرف لبنان على مدّ الصرّافين بالدولارات وليس المصارف؟ هل من المنطقي أن يمسي القطاع المصرفي كلّه مختصراً بقِلة من صرّافي الفئة “أ” وثُلّة من صرافي الفئة “ب”؟ ألم يكن أَولى بيع المصارف المحلية هذه الدولارات من أجل مدّ المواطنين المحتاجين فعلاً للدولارات، من خلال حساباتهم المصرفية؟

مصرفي رفيع فضّل عدم الكشف عن اسمه، يجيب عن هذه التساؤلات بالقول إنّ مصرف لبنان “أوقف بيع الدولارات للمصارف منذ مدّة، حتّى إنّ مصرف لبنان يضع العراقيل في طريق فتح الاعتمادات”. فحسابات المصارف لدى المصرف المركزي باتت عبارة عن “قجّة بـ0% فائدة”، لا يمكن الاستفادة ممّا فيها من أموال، ثم يضيف المصرفي: “على سبيل المثال، فإن مصرفنا يملك أحد الحسابات الجارية في المصرف المركزي، وفيه قرابة 40 مليون دولار، يرفض الحاكم إعطاءنا منها دولاراً واحداً. حجة رياض سلامة أنّه يحافظ على الدولارات ولا يريد التفريط بدولارٍ واحدٍ منها”.

نسأله عن سبب إغداق سلامة على الصرّافين بالدولارات وحرمان المصارف منها، فيؤكد أنّ هذه الأموال التي تُعطى للصرّافين “حساباتها مختلفة تماماً ولها علاقة وثيقة بالسياسة”، وأنّ الحاكم “لا يملك خيارات أخرى”. في نظره، فإنّ سلامة “يمسك العصا من الوسط”، ويتعامل مع السلطة “على القطعة”، مرة يرجّح كفة هذا الفريق ومرة أخرى يرجّحها للآخر.

لكن ما الذي يضطرّ سلامة للاستمرار في لعب هذا الدور، ولما لا يستقيل؟

يجيب المصدر: “لعلّه خيار صعب. لكنّ الحقيقة أن لبنان يحتاج إلى مزيد من الأشخاص الذين يشبهون سلامة، وليس العكس. وفي نهاية المطاف من غير المنطقي لعن المصارف ليل نهار، ثم نخرج لنقول لماذا تثق الناس بنا؟ فنحن بلد المصارف. كنّا كذلك على مدى عقود، ولا يمكن التخلّي عن هذا الوجه والتحوّل إلى نظام اقتصادي آخر في غضون أشهر… العملية تحتاج إلى الكثير من التخطيط والمثابرة والصبر”.

مصرفي آخر يرفض نشر اسمه يؤكد لـ”أساس” أنّ فكرة “ضخّ دولارات نقداً في السوق وتكليف مصرف لبنان بها هي ضربُ جنون بذاته، هذا خيار أقل ما يقال فيه إنه غبي بامتياز”. ولا يستبعد أن يكون حزب الله قد فرض هذا الخيار على سلامة عبر الوسيط الأمني – السياسي المكلّف بمهمة التنسيق. ويتوقّع المصدر ألا يستمرّ طويلاً “سيناريو نثر الدولارات على الصرّافين” لأنّه سيستنزف احتياطي “المركزي” سريعاً.

ويرجّح مراقبون ألاّ يتضرر مصرف لبنان من ذلك كثيراً، باعتبار أنّه يضخّ الدولارات التي “يشفطها” من شركات تحويل الأموال، وتُقدّر بين 5 و7 ملايين دولار يومياً. وبالتالي فإنّ مصرف لبنان لا يدفع شيئاً من جيبه… هي “أموالُ الناسِ وإلى الناسِ تعود”، أو هي “أموال الناس.. وإلى الصرّافين تعود”.

فيديو يظهر شاحنات تهرّب مواداً غذائية من لبنان إلى سوريا، تعبر منطقة المصنع الحدودية بمؤازرة من الجيش اللبناني

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…