حوار الطرشان أحلى من العمى

مدة القراءة 5 د


من المفهوم والمُبرّر ارتباك “المعارضة” بإزاء “الممانعة” بسبب الحوار المُنادى به، الذي هو بطبيعته “طاولة فرض شروط”، لكن ليس مفهوماً على الإطلاق تقديم البديل السياسي والبلد يلفظ أنفاسه الأخيرة في كلّ شيء.

“المعارضة” الهيوليّة تشعر عن حقّ باستضعاف عابر لكلّ شيء في هذا الوطن الصغير. ومفهوم أن تلقى تضامناً من جمهورها الذي ليس لديه غير ما لدى قياداته. الرفض على معنى من المعاني هو احتجاج على الصمت الإقليمي والدولي حيال الترهّل اللبناني العامّ.

قياس الدول

تقاس الدول بالإنجازات الحضارية والأنشطة الاقتصادية والاتفاقيات والتحالفات السياسية، والتبادلات التجارية، والتموضعات الدولية والإنسانية. تقاس بالزمن وبالعصبية والعمران. تقاس أيضاً بالرفاهية والسعادة والأمن التي توفّرها لمواطنيها. تقاس بعملتها وشوكتها وحدودها.

من المفهوم والمُبرّر ارتباك “المعارضة” بإزاء “الممانعة” بسبب الحوار المُنادى به، الذي هو بطبيعته “طاولة فرض شروط”، لكن ليس مفهوماً على الإطلاق تقديم البديل السياسي والبلد يلفظ أنفاسه الأخيرة في كلّ شيء

لكنّ لبنان غيرها كلّها. لبنان وطن “فريد”. يقاس بالحوارات، بل لا يقاس بغيرها. جميع أنواع الحوارات: السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية والداخلية والخارجية والأهلية والعشائرية والمناطقية والدينية.

حوارات وأديان وبنادق

عمر لبنان من عمر حوارات لا تُعدّ ولا تحصى. حوارات أزلية: لا يُعرف أوّلها من آخرها. لبنان أساساً حوار. “هو بين الله والأرض كلام”، كما يقول الشاعر سعيد عقل. التعدّد فيه والاختلاف والتنوّع لا تصنع إلا حوارات.

وطن يندلع فيه الحوار من كلّ حدب وصوب، وبين كلّ حدب وصوب: حوار بين الأهل وبين الجيران. بين الأحياء والمناطق. بين الأقضية والمحافظات. بين الأحياء والأموات. بين الساحل والبحر والجبل. بين الشرق والغرب. بين الطوائف والمذاهب والأديان. بين موسى وعيسى ومحمّد. لبنان حوار بين السماء والأرض، بل بين الله والله ذاته جلّ وعلا.

أحبّ الحوارات إلى اللبنانيّين

في حوارهم الكبير والدائم هذا يتراشق اللبنانيون بالكلمات. بالجمل والشعارات والعقائد والأيديولوجيات والأحلاف والتكتّلات الدولية. يتراشقون في حواراتهم بالقناصل والسفراء والدول.

أحبّ الحوارات إليهم ما كان من رصاص ومدافع ومتاريس وجبهات وخنادق. اندلع أحدها طوال عشرين سنةً بين أربعينيات القرن التاسع عشر وستّينيّاته.

اندلع آخر أشهراً عام 1958. الأقرب إلى الأذهان دام عقداً ونصف عقد إبّان القرن الماضي. عُرف بالحرب الأهلية. غسان تويني سمّاه حروب الآخرين على أرضنا. سلم الآخرين على أرضنا يحتاج أيضاً إلى أسلحة. إلى صواريخ ومسيّرات. وإلى حروب على طول الحدود وفوقها وتحتها.

لا يتحاور اللبنانيون فوق ترابهم الوطني فحسب، بل فوق كلّ تراب من باريس وجنيف ولوزان إلى الطائف في المملكة العربية السعودية فقطر. أكثر من ذلك، يقتاتون على الحوارات. الحوار خبزهم وملحهم، ولا يهمّ إن كان بينهم أم بين سواهم. نحن في عصر الحوار الروسي الصيني الأميركي، نعيش نتائج الحوار السعودي الإيراني، وإرهاصات الحوار القطري الفرنسي السعودي الإيراني، ويلفّنا حوار عربي عربي وآخر عربي إسرائيلي. وننتظر حوارات جبران باسيل الداخلية مع نفسه وبينه وبين المرآة. أمّا الآن الآن وليس غداً، فتتمشّى بيننا رصاصات الحوار الفلسطيني الفلسطيني، وتسجن صيدا والوطن.

الحوارات في لبنان تتناول كلّ شيء: بدءاً من الهويّة الوطنية، الشراكة، الميثاق، الحدود، السياسة الخارجية، والجيش وصولاً إلى المناصب والحصص والتعيينات والكبّة والفراكة والكشك والزعتر. حوارات حول الوجه واليد واللسان.

“المعارضة” الهيوليّة تشعر عن حقّ باستضعاف عابر لكلّ شيء في هذا الوطن الصغير. ومفهوم أن تلقى تضامناً من جمهورها الذي ليس لديه غير ما لدى قياداته

لا غالب ولا مغلوب

لكنّها حوارات تنتهي غالباً بـ”لا غالب ولا مغلوب”. اختراع عجيب أخرجه الرئيس الراحل صائب سلام، من جيبه، ذات حوار. لا طرف يغلب، ولا نتيجة. حوارات تمهّد لحوارات في الغيب لا بدّ ستأتي، وستكون لمصلحة الجميع. يدخل المتحاورون متخاصمين ويخرجون كلّهم من دون استثناء غالبين. وحدها الدولة تخسر عند كلّ حوار، ووحده الدستور والقوانين تُرمى على قارعة الحوارات. متى تغلب الدولة؟ متى نرفع غلبة الدولة شعاراً؟ متى ننتقل إلى دولتي دائماً على حقّ؟

ما البديل من الحوار الذي دعا إليه الرئيس نبيه برّي؟ صحيح أنّه حوار من أجل الحوار فقط، الفنّ للفنّ والحوار للحوار، إذ لا مرشّح ولا قاعدة ولا إشكالية محدّدة ولا حرّية ولا حتى طاولة!

بلد تملؤه الطاولات من أقصاه إلى أقصاه. طاولات للطعام والفرجة والحوار. طاولات وكراسٍ ومتحاورون؟ لكنّ مقوّمات الحوار شبه معدومة من حيث المظهر والجوهر. يتحاورون هنا وعينهم على الحوارات هناك. يتبادلون المقترحات هنا، ثمّ يحطّ الحلّ كصخرةٍ حطّها السيل من علِ.

حوار ينتج حواراً ينتج حواراً… إلى ما لا نهاية. ولكن هل من سبيل آخر؟ ما بديل الحوار، إذا كنّا أحياناً نخوضه بالرصاص القاتل واللحم الحيّ؟ حوار من أجل الحوار؟ ولم لا؟ أليس الحوار أفضل من التمترس خلف القطيعة والخندقة في الكراهية والتباعد؟

نتحاور وننتظر حلّاً من الخارج، أفضل من التحاور عن بعد، وعبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والحوادث المتنقّلة من الطيّونة إلى الكحّالة.

إقرأ أيضاً: ما علمه المسيحيّون وذاقوه

محكومون بالحوار

نحن محكومون بالحوار، بالإذن من سعد الله ونّوس. الحوار الذي هو الأمل الوحيد الباقي مع هذه العصبة الشرّيرة التي تقطع عامدةً، وعبر الحوار، كلّ سبيل إلى تلاقٍ وتقاربٍ وحلّ.

محكومون بطاولة مربّعة أو مثلّثة أو مستديرة، يفد إليها الجميع ليدلي كلّ بدلوه، من دون أن يستمع الآخرون إليه. يأتي بفكرته وحلّه ومقترحه ويخرج به، إلا إذا أمطرت ونحن في قيظ وطني لا يتزحزح منذ عهود.

حوار الطرشان أحلى من العمى.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…