حلّ الدولتين: ضجيج.. لتمرير المجزرة

مدة القراءة 7 د


تتكثّف همّة دولية، أهمّها أوروبية وأبرزها أميركية، لإعادة تعويم حلّ الدولتين كتسوية مثلى لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتأتي جلبة الأمر في بروكسل ومدريد وباريس وعواصم أخرى هذه المرّة مع جلبة غير مفهومة أطلقتها إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة. والأمر على أهميّته قد لا يتجاوز مستوى ضجيج بلا حجيج يهدف إلى تقطيع وقت المقتلة الجاري تنفيذها في قطاع غزّة.

إذا ما كانت إسبانيا سبّاقة هذه الأيام في اقتراح عقد مؤتمر دولي يسهّل تسوية تتيح قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، فإنّ المشروع قديم في أدراج العالم ومنظّمته الأممية ويحظى باحتضان أوروبي تجمع عليه دول الاتحاد المانحة. غير أنّ جديد ما بات متقادماً ومهمَلاً منذ عقود يرتبط هذه المرّة بترداد الأمر من قبل منابر واشنطن من البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية مروراً بمستشارية الأمن القومي ومراكز التفكير العريقة في الولايات المتحدة.

تتكثّف همّة دولية، أهمّها أوروبية وأبرزها أميركية، لإعادة تعويم حلّ الدولتين كتسوية مثلى لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

لكن ما هو غير مقنع أن يحمل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ملفّ حلّ الدولتين وينتقل به في عواصم المنطقة فيما آلة الموت تمارس إبادة للبشر والحجر في غزّة بمباركة واشنطن وأغلبية حلفائها داخل المنظومة الغربية. وفيما تحتاج ورشة لمناقشة “الحلّ النهائي” إلى “رأس بارد” ومتحصّن من شظايا وحرائق الحرب القاتلة لمبدأ العيش في القطاع، فإنّ الحديث عن حلّ الدولتين في عزّ هذا المصاب يبدو ترفاً لا يقوم على صدق أو إيمان.

ما هي خريطة الدولة الفلسطينية؟

يجوز هنا تفقّد خرائط موازين القوى التي ستنتج عن حرب غزّة لاستشراف شكل وخرائط الدولة الفلسطينية العتيدة. ويجوز أيضاً طرح السؤال بشأن جاهزية إسرائيل للانخراط في مفاوضات مبدئية لقيام شكل من أشكال الدولة للفلسطينيين، وهي التي أنكرت حكوماتها هذا الاحتمال خلال العقود الأخيرة ولم تسمح في السنوات الأخيرة باستئناف أيّ مفاوضات سياسية مع السلطة الفلسطينية المفترض أنّها براغماتية وتنصّ أدبيّاتها على اعتراف بدولة إسرائيل. ولا يبدو أنّ قادتها في “مجلس الحرب” متّفقون على كيفية التعامل مع استفاقة الرئيس الأميركي جو بايدن على توحيد “الضفة والقطاع”.

إذا ما كان المراقبون يتوقّعون تحوُّلاً في خريطة القوى السياسية التي ستحكم إسرائيل بعد انتهاء الحرب، وإذا قبلنا جدلاً باحتمال من هذا النوع، فإنّ الأمر يحتاج إلى مرحلة زمنية قد تستغرق عدّة دورات انتخابية قبل أن تترسّخ فكرة “الدولة الفلسطينية” داخل المجتمع الإسرائيلي وتصبح جزءاً من الأفكار القابلة للتسويق داخل برامج الأحزاب السياسية. ناهيك من أنّ الوعي الجمعي الإسرائيلي سيعتبر “الدولة” جائزة تبرّر قيام “القسّام” بعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

ولو صحّ جدلاً أنّ العالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة قد اقتنع أخيراً، بسبب الكارثة التي حلّت أخيراً، بأنّ لا حلّ إلا بتسوية سياسية تنتهي بقيام دولة فلسطينية، فإنّ الأمر يحتاج إلى إعداد شريك فلسطيني مؤهّل لقيادة وإدارة الدولة الموعودة. ولئن يتعامل أصحاب المبادرات مع السلطة الفلسطينية بصفتها العنوان المتوفّر حتى الآن ليكون شريكاً في هذه التسوية، فإنّ عدم الذهاب إلى ترشيق وتحديث التمثيل السياسي الفلسطيني واعتباره شرطاً للتسوية الميمونة يحرم كلّ هذه المواكب من أيّ مصداقية لدى الفلسطينيين قبل بقية الأطراف المباشرة والدولية.

الدولة التي يسوّق لها بلينكن وتدعو إليها أوروبا لا تشبه الدولة المتوخّاة على 22 في المئة من مساحة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية

على الرغم من كثرة ووجاهة نظريات المؤامرة التي تتحدّث عن خطط لإبادة غزّة من أجل إقامة مشاريع جيوستراتيجية في بحر القطاع وبرّه، إلا أنّنا لا نملك غير التشبّث بثوابت تكرّرها الإدارة في واشنطن حتى الآن.

– الأوّل: منع تهجير سكّان القطاع إلى خارج حدوده.

– الثاني: منع إسرائيل من إعادة احتلال غزّة.

– الثالث: أن تحكم القطاع إدارة فلسطينية.

تعني هذه الثوابت أنّ الولايات المتحدة تعتبر، كما يطالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أنّ قطاع غزّة هو جزء من أيّ تسويات شاملة لقضية فلسطين، وبالتالي جزء من الدولة التي ينشدها الفلسطينيون على حدود 4 حزيران 1967.

السلطة الفلسطينية و”الحكم على ظهر الدبابة”

على الرغم من أنّ سيناريو إعادة السلطة لتحكم غزّة (بشّر به المنسّق الأوروبي جوزيب بوريل في جولته في المنطقة) هو واحد من السيناريوهات التي تتدافع استعداداً لليوم التالي لانتهاء الحرب، إلا أنّ السلطة، الرافضة أساساً أن تعود لحكم القطاع على ظهر الدبّابة الإسرائيلية، تعي، وبقيّة المشهد السياسي الفلسطيني، أنّها ليست جاهزة في وضعها الحالي للعبور إلى الحلّ إذا ما افترضنا أنّ واشنطن وحلفاءها جدّيون به، وأنّ التمثيل وجب أن يكون أوسع ويفترض أن يضمّ حتماً حركة حماس أو واجهة جديدة لها.

المقلق أنّ السيناريوهات التي تقترح بديلاً أو مكمّلاً لعودة السلطة إلى غزّة، ما زالت تتّسم بالتبسيط والخفّة وكأنّها عمليات إعادة تركيب أحجار وبناء هياكل داخل لعبة فيديو. فلا تأخذ هذه الأوراق بالاعتبار تراكماً من التجارب التاريخية ونصوصها ومعاهداتها وأطرافها وتأتي لتخترع التاريخ من جديد من نقطة زمنية بدأت في يوم “طوفان الأقصى” مهمِلة نكبة بدأت منذ قيام دولة إسرائيل و”نكسة” أدّت إلى احتلال ما يُفترص أن يصبح دولة فلسطينية مفترضة.

على هذا يصبح مستقبل حلّ الدولتين شديد الارتهان بالشروط والقواعد التي تنتهي إليها الحرب في غزّة. وإذا ما كان موقف واشنطن المدعوم نسبياً من كلّ المنظومة الغربية مواكباً للخطط الإسرائيلية لتلك الشروط والقواعد، فإنّ على أصحاب مبادرة تعويم “حلّ الدولين” أن يعملوا على نهايات تلائم هذا الحلّ. وإذا ما كان اقتراح إسبانيا بشأن الموتمر الدولي الذي تبنّاه الاتحاد الأوروبي صادقاً، فإنّ على العالم، بما في ذلك المنطقة العربية، أن يتموضع منذ الآن وفق ما يمكن أن يُنتج تلك الدولة وذلك الحلّ.

إقرأ أيضاً: من كابوس غزّة إلى زلزال “الخريف العربيّ”!

شريك فلسطيني… وانقلاب إسرائيلي

الواضح أنّ احتمالات الأمر تتطلّب انقلاباً ميؤوساً منه داخل إسرائيل، لكنّها تتطلّب أيضاً إعادة صناعة شريك فلسطيني يجري هذه الأيام استكشاف احتمالاته من خلال تدفّق الاتصالات الدولية مع شخصيات فلسطينية في الداخل والخارج على أمل أن تجد لديها ومعها معالم واجهة فلسطينية تأخذ بالاعتبار عوامل مستجدّة:

– أوّلها تغيّر شروط الزمن وقواعده عمّا كانت عليه منذ اتفاق أوسلو عام 1993.

– وثانيها تبدّل موازين القوى والخرائط الجيوستراتيجية في العالم لا سيما منذ تفجّر الصراع الغربي الحديث مع روسيا والصين.

– وثالثها تستخلص بشكل بنيوي ما فرضه “الطوفان” من قوانين على الفكر الاستراتيجي الذي يدير العالم عامة والشرق الأوسط خاصة. 

غير أنّ الدولة التي يسوّق لها بلينكن وتدعو إليها أوروبا لا تشبه الدولة المتوخّاة على 22 في المئة من مساحة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية. ومن أجل قيام الدولة المفترضة تتحدّث واشنطن عن صناعة قيادة جديدة تُبقي محمود عباس في منصب فخري تماماً كما فعلوا مع الراحل ياسر عرفات يوماً، وتماماً كما يُعِدُّ لاعبو الـ video games بيادقهم.

 لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…