لا تقلّ المرحلة الحالية في لبنان دقّة وخطورة عن مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فالآن، كما في شباط 2005، يتبدّى الوضع اللبناني مفتوحاً على احتمالات وسيناريوهات شتّى تتداخل فيها العوامل الدوليّة والإقليمية.
وإذا كانت خريطة الانقسامات / التحالفات السياسية راهناً أكثر تعقيداً منها في العام 2005، خصوصاً لجهة انقسام المعارضة وغياب دينامية داخلية بوجه “حزب الله”، فإنّ الضغوط الأميركية ضدّ الأخير، وردود فعله عليها، كما تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية على نحو متسارع، كلها عوامل حاسمة في تحديد معالم المرحلة المقبلة في بيروت.
إقرأ أيضاً: إلى دياب “المتوتّر” في خطاب الوداع: دولة الرئيس… حكومتكَ سبب الحصار
صحيح أنّ صفحة قرار “العجلة” بمنع وسائل الإعلام من استصراح السفيرة الأميركية دورثي شيّا قد طويت قضائياً وديبلوماسياً، لكنّ الاندفاعة القضائية والسياسيّة ضدّها آذنت بدخول لبنان حقبة جديدة من التصعيد والمواجهة المباشرة، هذه المرة بين “حزب الله” والولايات المتحدة الأميركية، وذلك في ارتداد مباشر للمواجهة بين واشنطن وطهران على امتداد المنطقة. وليس قليل الدلالة في هذا السياق تزامن القرار القضائي ضدّ شيا مع ردود فعل الفصائل العراقية الموالية لإيران على عملية توقيف “جهاز مكافحة الإرهاب” 14 منتسباً إلى “الحشد الشعبي”. إذ عدّتها محاباة من قبل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي للأميركيين ما دفعها إلى التهديد بالانسحاب من التوافق السياسي الذي أنتج حكومته.
لقد أراد “حزب الله” من خلال هذه “الواقعة القضائية” رسم “قواعد اشتباك” جديدة مع السفارة الأميركية في بيروت
لقد أراد “حزب الله” من خلال هذه “الواقعة القضائية” رسم “قواعد اشتباك” جديدة مع السفارة الأميركية في بيروت، قوامها أنّ أيّ “عدوان سياسي” من قبلها ضدّه سيقابله بالردّ المناسب، وبالوسائل “الشرعية” أي من خلال مؤسسات الدولة اللبنانية. فيكون بذلك قد أرسل رسالة مزدوجة إلى واشنطن مفادها أنّه لن يسكت بعد الآن على أيّ تجاوز لـ”الخطوط الحمر” بينه وبين سفارة “الشيطان الأكبر”. وأعلن أنّ في إمكانه استخدام أدوات الدولة اللبنانية في مواجهته معها، ما يؤكد نفوذه الآخذ بالاتساع داخلها حتى ولو كان مآل القرار القضائي المذكور يحتمل تفسيرين غير متناقضين بالضرورة: فإمّا أنّ “حزب الله” اكتفى بإيصال الرسالة إلى “سفارة عوكر”، وبالتالي لم يمانع لفلفة القضية. وإمّا أنّ العهد تلقّف كرة النار التي تسبّب بها هذا القرار خشية أن يحرق مراكبه كلّها مع الأميركيين.
لكن الأهمّ أنّ هذه “الواقعة” أثبت أنّ عنوان الاشتباك/ التفاوض/ بين أميركا وإيران في لبنان، هو حكومة حسّان دياب. والدليل أنّ مطالبة السفيرة الأميركية الجمعة الماضي بحكومة “اختصاصيين” كانت صفارة الإنذار لاندلاع معركة “السلاح الأبيض” بين “حزب الله” والسفارة الأميركية. هذا لا يعني أنّ الحزب متمسّك بالحكومة الحالية حتّى آخر نفس وأنّه لا يستشعر عجزها عن مواكبة التحدّيات الراهنة. لكنّها، وبالرغم من مآزقها الداخلية والخارجية، حكومة محسوبة عليه سياسياً. ولذلك، فهو غير مستعدّ للتنازل عنها في توقيت سياسي يظهره كأنه تراجع أمام التصعيد الأميركي بوجهه. وحساباته لهذه الناحية مختلفة عن حسابات العهد، الذي مهما بلغ مستوى تحالفه مع “حزب الله”، في النهاية ليس طرفاً مباشراً في المعركة الإقليمية بين طهران وواشنطن، وبالتالي ليس مستعداً لتحمّل تبعاتها السلبية عليه، وإن كان تحالفه مع “حزب الله” قد أتاح له الوصول إلى القصر.
باتت حكومة حسّان دياب ورقة بيد “حزب الله”، وإيران تفاوض بها
والحال، فقد باتت حكومة حسّان دياب ورقة بيد “حزب الله”، وإيران تفاوض بها الغرب وفي مقدّمته أميركا عندما يحين موعد هذه المفاوضات، قبل الانتخابات الأميركية أو بعدها. لكن الأهمّ في توقيت يوافق الجمهورية الإسلامية ولا يظهرها في موقف ضعف إزاء سياسة “الضغوط القصوى” الأميركية. إذّاك يستطيع دياب أن يتخيّل كلّ أنواع المؤامرات ضدّه، لكنّه لا يستطيع إنكار حقيقة أنّ حكومته، المنزوعة الثقة السياسية والشعبية، فضلاً عن الثقة الدولية، باتت وظيفتها الوحيدة تأمين مصالح “حزب الله” وتالياً إيران في إطار مواجهتهما مع أميركا، بعدما فقدت أيّ وظيفة داخلية خصوصاً بعد تعثّر مفاوضاتها مع “صندوق النقد الدولي” ما سرّع عجلات الانهيار المالي على نحو بات ينذر بكارثة اجتماعية.
هذا المشهد السوداوي الذي يلفّ الحكومة الحالية يدفع بدياب لأن يلوذ بـ”حزب الله” أكثر فأكثر، وهو ما أظهره الخميس في موقفه المستنكر لـ”التجاوزات الديبلوماسية المتجاوزة للأصول”. ثم اجتماعه الموسّع مع السفير الصيني قبل أن يجتمع الجمعة مع وفد وزاري عراقي، ما يعكس توجّه الحكومة شرقاً عملاً بما أوصى به السيّد حسن نصرالله.
لكنّ احتماء دياب بالحزب ليس سببا كافياً ليتمسّك به “ما بقي الليل والنهار”. فما يهمّ “حزب الله” راهناً ألّا يظهر مستعجلاً إبرام تسوية حكومية جديدة تحت الضغط. هو الآن يتصرّف وفق استراتيجية “الحرب الطويلة” لمواجهة قانون “قيصر”. ويحاول تبعاً لذلك استخدام الحكومة الحالية لإحداث تغييرات أساسية في بنية النظام الاقتصادي ما أمكنه ذلك. كما يسعى لردّ اتّهامه بالتسبّب بالحصار المالي على لبنان باتهام أميركا بتجويع الشعب اللبناني كلّه وفق معادلة “السلاح أو الجوع”. ويجهد في المقابل لتأكيد دعم إيران للبنان عبر استعدادها لإرسال “السفن الغذائية” وبواخر النفط إليه، في محاولة لكسر العقوبات الأميركية المفروضة عليها. وهو ما سيلقى معارضة جديّة في بيروت حتّى من الرئيس نبيه بري الذي لم يؤثر مرّة مغامرات من هذا النوع.
هذه المعطيات اللبنانية المعقّدة والخطيرة، في ظلّ انكشاف “بلاد الأرز” على صراعات المنطقة، وغياب أيّ شبكة أمان سياسية داخلية، وفي وقت يبلغ الفالج المالي والاقتصادي ذراه، باتت تثير مخاوف غربية من انفلات الوضع الأمني في لبنان، بدليل موقف وزير الخارجية الفرنسية الذي حذّر من وقوع أعمال عنف في لبنان. لكن هل تستطيع فرنسا تحضير أرضية مناسبة لإبرام تسوية سياسيّة جديدة تنتج حكومة جديدة؟ وهل موقف المتحدثة باسم وزراة الخارجية الأميركية الخميس عن استعداد واشنطن لـ”العمل مع الفرنسيين وغيرهم من أجل مستقبل أفضل للبنان” يعبّر عن دينامية دولية جديدة لتفادي الانهيار الاجتماعي في “بلاد الأرز”؟ وما هو الثمن الذي ستطلبه إيران لقاء تسهيلها الحلّ في لبنان؟
كلّها أسئلة يصعب إيجاد أجوبة أكيدة عليها في ظلّ استمرار المواجهة الأميركية الإيرانية على حدّتها، وأبرز عناونيها راهناً ضغط واشنطن لتمديد حظر السلاح على طهران في مجلس الأمن. وهو ما يطرح أسئلة جديدة: هل تمهّد تسويات صغرى بين واشنطن وطهران للتسوية الكبرى بينهما في المنطقة؟ أم أنّ التسوية الكبرى تستجرّ الحلول الصغرى من دول الصراع؟
الأكيد أنّ “حزب الله” يتصرّف على قاعدة أنّه الأقلّ تضرراً بين الأفرقاء والبيئات السياسية / الاجتماعية من الأزمة الراهنة، وهذا معطى أساسي لمقاربة ملامح المرحلة المقبلة في لبنان، سواء لجهة اشتداد المواجهة السياسية وتفاقم النكبة الاجتماعية أو لجهة ابتداع حلّ سياسي يفتح الطريق نحو حلول للأزمة المالية.