منذ عام 1994، وإقرار اتفاق السلام الهشّ بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان نتيجة الصراع من أجل السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ، لم يبذل النظام الإيراني الكثير من الوقت لمتابعة التطوّرات التي تحصل على حدوده الشمالية الغربية مع منطقة القوقاز، فيما كان منغمساً في المقلب الثاني من حدوده مع منطقة الشرق الأوسط والمحيط العربي، ودخل في صراعات مفتوحة مع الولايات المتحدة الأميركية، وحاول فرض نفسه لاعباً على ساحة الشرق الأوسط.
الإعلان أخيراً عن اتفاق سلام بين باكو ويريفان (إيروان) بعد نحو 55 يوماً من اندلاع الشرارة الأولى للحرب المستجدّة بينهما وبوصاية روسية مباشرة، جاء في غمرة انشغال العالم وإيران بمعركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو ما شكّل صدمة للقيادات الإيرانية وضعتهم أمام حقائق معقّدة وتحدّيات صعبة تطال مستقبل دور إيران ووجودها الجيوسياسي في منطقة القوقاز.
الإرباك الإيراني ظهر واضحاً في الموقف الرسمي، الذي بادر إلى تأييد الوصاية الروسية في اتفاق السلام وما جاء فيه، لكنه عاد ليحذّر من أيّ مساس بالمكتسبات الإيرانية، والحدود الدولية، والمصالح الاستراتيجية لإيران في منطقة القوقاز. وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن طهران استفاقت بعد فوات الأوان على حقائق لم تكن في حساباتها، خصوصاً وهي تستعدّ لجولة صراع جديدة مع واشنطن، لا تقتصر على البرنامج النووي، بل تطال استراتيجيتها الدفاعية القائمة على البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي.
الإعلان أخيراً عن اتفاق سلام بين باكو ويريفان (إيروان) بعد نحو 55 يوماً من اندلاع الشرارة الأولى للحرب المستجدّة بينهما وبوصاية روسية مباشرة، جاء في غمرة انشغال العالم وإيران بمعركة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو ما شكّل صدمة
فالاتفاق الذي حقّقه محور “باكو – أنقرة” يعتبر تاريخياً ومهماً، ويُدخل تغييرات جيوسياسية على منطقة شمال نهر أراس، ويتّسع تأثيره لأبعد من الإنجاز العسكري الذي حقّقته باكو في هذه الحرب، ويؤثّر في المصالح القومية لإيران. فهو سمح لتركيا ولأوّل مرة في تاريخ منطقة القوقاز الجنوبية بالاتصال مع أذربيجان عن طريق البر من خلال الكوريدور الذي اتفق على فتحه بين باكو وإقليم نخجوان، وما لذلك من أهمية لدى القوى الإقليمية والعالمية وشركات الطاقة الدولية، والالتفاف حول إيران، بالإضافة إلى ما يسمح به من تشكيل حزام قومي تركي على الحدود الشمالية لإيران. وقد تُعزّز هذه المخاوف لدى طهران طبيعة المعركة العسكرية التي خاضتها باكو بدعم من أنقرة وتل أبيب، والتمركز على المحور الجنوبي، وأهميته الاستراتيجية بالقرب من الحدود الإيرانية. من دون إسقاط إمكانية حصول توافق ضمني بين موسكو وأنقرة لإعطاء هذا المحور الأولوية في الحرب من قبل باكو، تعزّزه تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أكّد العمل على شقّ طريق بري بين باكو ونخجوان وإقامة سكك حديد بالإضافة إلى مواقف وزيري الدفاع الروسي والتركي حول نشر قوات مشتركة على هذا المحور، وفي المناطق المحرّرة. وهو ما يسهم في خلق تغييرات جيوسياسية لا تخدم مصالح طهران، وتضرب الجهود التي بذلتها خلال العقود الثلاثة الماضية على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية.
يمكن وصف الاتفاق الثلاثي في القوقاز بأنه بمثابة الفاجعة الاستراتيجية والجيوسياسية لإيران، خصوصاً أنّه يسمح لتركيا بالحضور في منطقة بحر قزوين (الخزر)، وأن تتحوّل إلى لاعب نشط في مجال هذه الدول، وأن تفرض على طهران أن تأخذه بعين الاعتبار قدرتها في التأثير على مواقف هذه الدول (تركمانستان وكازاخستان) التي تتكلّم التركية وتنتمي إلى القومية الطورانية.
الخروج من معادلات الطاقة
المعادلة الجغرافية والجيوسياسية الجديدة التي سيتمخّض عنها اتفاق السلام بين باكو وإيروان (يريفان) والوصاية الروسية المباشرة، كلّ هذا يعني أنّ ممرّ خطوط أنابيب الطاقة والعبور البري والسككي لدول منطقة القوقاز الجنوبي لم تعد بحاجة إلى إيران. وبات بإمكان تركمانستان وكازاخستان الاتصال بجنوب باكو، ومنها إلى نخجوان وصولاً إلى تركيا وسواحل البحر الأبيض المتوسط باتجاه أوروبا. ويتمّ ذلك من خلال خط باكو – تفليس – جيهان.
وفتح معبر أو كريدور “زنغزور” بين باكو ونخجوان بالقرب من الحدود الإيرانية، يعني وضع طرق التواصل البري بين إيران وأرمينيا رهينة لدى الطرف الذي يسيطر على هذا المعبر، ويشرف على أمنه، ما يعني إمكانية إخراج أرمينيا من معادلات إيران الاقتصادية وخسارتها الحلقة الأهم في تواصلها التجاري والاقتصادي مع أوروبا كخطّ بديل عن المعبر التركي، وما يعني ذلك من خروج عائدات ضخمة تقدّر بمليارات الدولارات من الحسابات الإيرانية الاقتصادية.
يمكن وصف الاتفاق الثلاثي في القوقاز بأنه بمثابة الفاجعة الاستراتيجية والجيوسياسية لإيران، خصوصاً أنّه يسمح لتركيا بالحضور في منطقة بحر قزوين (الخزر)، وأن تتحوّل إلى لاعب نشط في مجال هذه الدول
ويشكّل التواصل البري بين إيران وأرمينيا حلقة محورية في مشروع طهران لبناء كوريدور في الشمال – الجنوبي، الذي يصل مياه الخليج بالبحر الأسود ودول القوقاز وآسيا الوسطى. بالإضافة إلى زعزعة الرؤية الإيرانية في إعادة إحياء طريق الحرير القديمة، التي كانت تطمح بأن تكون الممرّ الذي يوفّر للصين اتصالاً مع الاسواق العالمية. وهذه الخسارة تصبّ في صالح تركيا التي باتت تمتلك تأُثيراً ونفوذاً في دول القوقاز وآسيا الوسطى، يمكن أن تشكّل مستقبلاً، مجالاً حيوياً لها يضع نفوذها على حدود الصين، ويساعدها في التحوّل إلى المعبر أو الممرّ الصيني البديل عن الممرّ الإيراني باتجاه أوروبا، الأمر الذي يكرّس معادلة جديدة في هذه المنطقة ليس لإيران أيّ شراكة استراتيجية في معادلاتها. وهو ما يشكّل بالإجمال إنجازاً غير مسبوق لأنقرة، لا يمكن مقارنته مع الجهود التي تبذلها لفرض وجودها وشراكاتها في مناطق أخرى مثل سوريا والعراق وليبيا.
وبعيداً من حسابات الربح والخسارة الروسية من نتائج هذا الاتفاق، وما يمكن أن يؤدّي إليه من فتح طريق أمام نفوذ تركي في المجال الحيوي لموسكو في منطقة أوراسيا، فإن الخسارة الإيرانية تبدو هي الأكثر وضوحاً في المعادلات الجديدة التي نشأت على حدودها الشمالية. فهي وعلى الرغم من امتلاكها أكثر من 800 كليومتر من الحدود مع منطقة القوقاز، إلا أنّها لم تستطِع ترجمتها في مصالح الاستراتيجيا والجيوسياسة.
إقرأ أيضاً: أذربيجان وأرمينيا (1): استنطاق الخرائط
السؤال الذي يطرح الآن في الكواليس الإيرانية: هل ستكون طهران قادرة على تحويل التهديد الجديد إلى فرصة تسمح لها بالحفاظ على مصالحها القومية في هذه المنطقة؟ وهل الدبلوماسية الإيرانية ومراكز القرار قادرة على ابتداع سياسة جديدة تبعد شبح الخسارة الكاملة؟ أم أنها ستكتفي بتقديم تسويغات بالاعتماد على تفسير الموقف الذي أعلنه المرشد الأعلى من هذه الأزمة، وقد كان محكوماً بجهود تهدئة الوضع الداخلي والمكوّن الآذري الذي يعتبر القومية الثانية في إيران. وبالنتيجة، هل سيؤدّي هذا إلى القبول بالخسارة الجديدة التي تضاف إلى خسائرها التاريخية في هذه المنطقة؟
نبذة تاريخية
يبدو أنّ الحدود الشمالية والشمالية الغربية لإيران لا تجلب لها سوى الخسائر، منذ معاهدة كلستان التي وقّعتها مع الإمبراطورية الروسية في تشرين الأول عام 1813، والتي تخلّت بموجبها السلطنة القاجارية عن أراضٍ كثيرة في منطقة القوقاز وأجزاء من سواحل بحر قزوين (الخزر) الغربية. واستمرّ مسلسل الخسائر والتراجعات حتّى معاهدة تركمانجاي التي نجمت عن حرب 1826 – 1828، التي خسرت بموجبها ايران آخر ما تسيطر عليه من أراضي القوقاز، اي أرمينيا الحالية، وإقليم قره باغ، ولم يبقَ تحت سلطتها سوى جزء من أذربيجان. وفي المحصّلة، فإن إيران وحتى عام 1828، فقدت وفق هاتين المعاهدتين (كلستان وتركمانجاي)، جميع أراضيها في جنوب القوقاز وشماله، أي كلّ المنطقة الواقعة شمال نهر أراس، التي تضمّ أراضي جورجيا، وأذربيجان، وأرمينيا، وجمهورية داغستان في شمال القوقاز لصالح روسيا القيصرية.
هذه الخسائر التاريخية لا تقتصر على منطقة القوقاز، بل استطاعت الإمبراطورية الروسية أن تخرج الإيرانيين من كلّ مناطق سيطرتها ونفوذها في آسيا الوسطى منذ زمن الدولة الصفوية، بالإضافة إلى أفغانستان، منذ القرن الثامن عشر.
وبعد أن استقرّت الحدود الإيرانية مطلع القرن العشرين (1920)، بحكم التوازنات الدولية والمعاهدات التي كرّست الحدود بين الدول في منطقة غرب آسيا، لم تخسر إيران أيّاً من أراضيها لصالح أيّ من جيرانها، واستطاعت أن تفرض نوعاً من التوازنات التي وفّرت لها تفوّقاً نسبياً مدعوماً بتحالفها آنذاك مع الولايات المتحدة الأميركية ما حدّ من طموحات الجار السوفياتي.