من اللحظة الأولى، بدا الرجل جاهزاً. لم يأتِ من لا مكان. طَموح إلى حدّ أنه لا يبالي بالكوارث أمامه. يتعامل معها كأنّها جزء من عمله الروتيني. هل هو بارد طويل البال، أم شخص حديدي؟ ليس بمقدورنا الجزم.
يمارس وظيفته بصبر الأكاديمي، بلا ملل، لكنّه كذلك يعجز عن إخفاء الطابع المتردّد عند نظرائه من الأكاديميين. فما تكاد تطلع خطة إنقاذ وتتناقلها الألسن الحِداد بالنقد والاستهجان حتّى يدفنها في التراب، وكأنّها مجرّد مسودّة بحث غير قابلة للنشر، بانتظار مواقفة المُشرف عليها. لم تخرج منه لا قبلاً ولا بعداً أيّ عبارة تنبئ برؤية سياسية ما، أو أيّ موقف من حقبة سابقة أو راهنة، عن شخصية أو زعامة ما، أو حتى عن تطلّع إلى مستقبل ما. هو غارق في اللحظة الآن، معتقلٌ بين جنباتها. فلا أفكار مسبقة وربما ولا لاحقة. هل يطمح بعد ذلك لأن يكون سياسياً ولو مختلفاً عن الطبقة التي جاءت به، فدائياً ليس لديه ما يخسره، لا شعبياً ولا حزبياً ولا سياسياً؟ لا يمكن حسم الأمر الآن، وسط كارثتين: الكورونا وضياع أموال الناس.
أمر وحيد لا يمكن نكرانه. ثمّة ظلّ يحوم حول حسان دياب دونما إعلان. يتفلّت منه أحياناً فيظهر في فلتات اللسان، كما كان يقول فرويد. قد يكون هذا الظلّ هو مثاله، أو قد يكون هو طموحه. لمَ لا يكون حسان دياب كمثال هذا الظلّ، أو ربما أخطر. فما يواجهه الآن، لم يلقَهُ أيّ رئيس حكومة منذ الاستقلال. من سبقه من الرؤساء، استلموا دولة نامية ومزدهرة بطريقة ما، وهو استلم الحُطام، ويراد منه أن يكون البطل، من دون أن يكون لديه أيّ سلاح!
إقرأ أيضاً: عن حظّ حسّان دياب.. بانتظار ثورة الجياع
للإنصاف، هو استعدّ لجائحة مثلّثة الأضلاع، انهيار مالي ونقدي واقتصادي معاً، بما تيسّر له من معنويات عالية لتحقيق ما لم يحقّقه لا سلفه ولا الذين قبله، أي أن يعكس مسار الانهيار، وتبديل الاتجاه، بطريقة إعجازية ما. لكن اجتاحته جائحة الكورونا، فأسقطت بيده كل الأوراق. فبمَ يعالج العجز المالي والعالم كله مشغول بالفيروس القاتل، ولا مال ولا أيّ آمال.
فور تسلمّه مهمّة تشكيل الحكومة في أواخر كانون الأول العام الماضي، في قصر بعبدا، بدا حسّان دياب وكأنه يتعمّد بثّ صورة مختلفة للبنانيين عن أكاديمي آخر، يُفترض به أن يكون المخلّص الذي يتولى قيادة السفينة المتهالكة في بحر هائج، ولا يريد جزاء ولا شكوراً. وحاول بعد ذلك أثناء التشكيل، وفي انغماسه في ورشة العمل الشاق، أن يبرهن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً على أنّه من قماشة مختلفة عن معظم رؤساء الحكومات السابقة، وتحديداً عن الرئيس السابق سعد الحريري، مع أن مهمته ليست هيّنة إطلاقاً، بإزاء صورة نجل الرئيس الشهيد، والزعيم السني الأقوى نسبياً، على الرغم من كل الإخفاقات لاحقاً.
الإنجاز الأول لحسان دياب في وظيفته الجديدة، قراءة بيان مكتوب عقب تكليفه رسمياً، بلسان فصيح، وأسلوب منمّق. هنا، وجّه دياب ضربته الأولى، في مسار أراده أن يكون طويلاً قدر الإمكان، حاجزاً لنفسه كرسياً في نادي الرؤساء. صحيح أن الرئيس سعد الحريري، اشتغل جيداً على فنّ مخاطبة الناس، سواء أكان بقراءة نصّ مكتوب بعناية أم بارتجال عفوي لأفكار متداعية. لكنّ الناس لم تألف من مدة طويلة، رئيس حكومة، بهذه اللهجة السليمة وهذا الأداء المصنوع.
لكن هذا لا يكفي. فالزمن لا يسعه خطاب، مهما كان أنيقاً، ولعلّه يبدو في موضعٍ ما مستهجناً، والناس في وادٍ آخر، والشارع يغلي بالثورة ضد طبقة سياسية راسخة ومتحكّمة، بالطوائف ابتداءً، وبالدولة ومؤسساتها استطراداً. بعبارة مختصرة، كان على الرئيس دياب أن ينتقل دون إبطاء من القول إلى الفعل. بل لا يكفي الفعل بحدّ ذاته. إنّه يحتاج إلى الإنجاز. الإنجاز وحده، هو ما يصنع له هالة معيّنة، تقارب نوعاً من الكاريزما المصنوعة، كما تصنع الانتصارات العسكرية كاريزما القادة. ولو اعتبرنا أنّ الكاريزما تتألف من ثلاثة أركان رئيسية: الجاذبية، والخطاب، والإنجاز، فقد تبيّن جلياً أن الرئيس دياب بحاجة ماسّة جداً إلى الإنجاز، كي يٌشبع صورته أمام نفسه، قبل الآخرين. فهو يمتلك الخطاب، المصنوع لا المرتجل، ولا هو من أصحاب الكاريزما الطبيعية، وقليلٌ ما هم.
إلى هذا الحدّ، يبدو المشهد طبيعياً دون مفاجأت. إلا أن ما لفت النظر بعد أسابيع من انطلاق الماكينة الحكومية، تبرّم الرئيس دياب ممن ينتقدونه، وظهر ذلك في تصريحات عدة متتالية، قبل أن ينشغل الجميع بمتابعة منحنى كورونا المتصاعد رويداً في لبنان، وانفجاره في العالم من حولنا. فأين هو الذي غير اعتيادي، في الإعلام الافتراضي، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، ومن أنصار الثورة خاصة؟ أين هي الجبهة السياسية العارمة التي تعارضه ليل نهار وتوجّه له السهام؟ هل هناك حقاً من يعرقل المسيرة؟ ومن يحفر للحكومة ويفخّخ لها الطرق؟ لا نرى إلا تسامحاً وتساهلاً من السياسيين الراغبين في هذه المرحلة تحديداً بتحميله كل الأوزار. فما القصة إذاً؟ وهل يعيش رئيس الحكومة الحالي في حقبة ماضية حين كان رئيس الحكومة آنذاك يتذمّر من الانتقادات والعراقيل؟ هل هو في حلم اليقظة؟
لا يمكننا العثور على تفسير ممكن إلا في مكان آخر، داخل حسان دياب لا خارجه. ألا يشابه شخصاً آخر، جيء به عقب حرب أهلية ضروس، ليكون مع صديقه في سدّة الحكم، لإصلاح ما أفسده محترفو السياسة، من الأسر الإقطاعية أو الرديفة لها؟ أليس هو الآتي من العالم الأكاديمي كما هو؟ أليس هو الوعاء الأبيض الخالي من أيّ لوثة حزبية أو سياسية أو طائفية كما هو؟ لم لا يكون هو هو، سليم الحص الثاني؟
كان لافتاً أن يزور الرئيس حسان دياب، مثاله والمرغوب في أن يكون مثيله، الرئيس سليم الحص في منزله في عائشة بكار. وما قاله عنده من على ورقة مكتوبة مع بعض الارتجال المتقطّع لا يخلو من معانٍ تؤكد ما نذهب إليه، فقد أكد دياب أكثر على أنه من مريدي هذه الطريقة، قال: “هذه الزيارة هي عودة للمدرسة التي تربينا على ثوابتها، والرئيس الحص ليس فقط ضمير لبنان بل هو عنوان لفكرة الدولة”. وتابع: “لا يمكننا أن نبدأ عملية الإصلاح من دون أن نعود إلى الأبعاد الوطنية للحص، الذي بات بمثابة مدرسة وطنية، وإنّنا في أمس الحاجة اليوم لقرارات تُتخذ بأبعاد وطنية لا طائفية ولا مذهبية”.
فهل ينجح حسان دياب؟
الرئيس سليم الحص له مسار مختلف تماماً. صحيح أن منطلقه أكاديمي، لكن من يذكر منه الآن، وحتى في سابق الزمان، أنّه كان أستاذاً جامعياً، في مدّة محدودة، شغل بعدها مواقع رفيعة في المؤسسات العامة، ومن أبرزها رئاسة لجنة الرقابة على المصارف، عقب أزمة بنك أنترا، فكان أحد صانعي النظام المصرفي الجديد بعد تلك الأزمة، إلى جانب حاكم مصرف لبنان آنذاك إلياس سركيس، قبل أن يُختار لرئاسة حكومة ما بعد حرب السنتين، برفقة زميله الرئيس الحاكم، ولم تكن الحرب الأهلية قد وصلت إلى ذروتها بعد. فكان عليه أن يرفع دولة من بين الأنقاض، وأن يحافظ على الليرة وعلى القطاع المصرفي وهو آخر قلعة من قلاع لبنان.
الرئيس الحص سواء أكنت موافقاً معه أو مختلفاً، إلا أنه صاحب فكر ورأي، وله كتابات وكتب، أرّخت الأزمة اللبنانية وسجّلت مواقفه المتمايزة
ومع الوقت، خرج الرئيس سليم الحص، وقد عركته الأحداث المتعاقبة والأزمات المتوالية، من بوتقة التكنوقراطي البحت ليكون السياسي الفرد. ليس رئيس حزب، بل صاحب رأي. قارع السياسيين وأمراء الحرب بجرأة الكلمة، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
ثم تولّى رئاسة الحكومة مجدداً بعد اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي عام 1987، وكادت مواقفه أن تودي به كذلك، في محاولة اغتياله هو أيضاً بعد عامين. ومن أبرز المواقف التي تُسجّل له، رفضه حكومة انتقالية رأسها العماد ميشال عون، عام 1988. فكانت حقبة استثنائية عُرفت بدولة الحكومتين، إلى أن انتهت باتفاق الطائف وإخراج الرئيس عون من قصر بعبدا.
وظلّ الرئيس الحص في مرحلة التعمير التي تولّى رئاسة الحكومة خلالها الشهيد رفيق الحريري، مستلماً زمام المعارضة البنّاءة، إلى حين تولّى حكومة التحدّي للحريرية السياسية تحت قيادة الرئيس إميل لحود، المدعوم من دمشق، ما بين عامي 1998 و2000، ففشل في الخروج من الإطار المرسوم من قبل، ولم ينجح إلا في تحقيق الانكماش الاقتصادي الذي رسم نهايته السياسية فعلاً، بهزيمته المدوية في الانتخابات النيابية مرشحاً عن بيروت، في وجه الرئيس رفيق الحريري.
والرئيس الحص سواء أكنت موافقاً معه أو مختلفاً، إلا أنه صاحب فكر ورأي، وله كتابات وكتب، أرّخت الأزمة اللبنانية وسجّلت مواقفه المتمايزة. والأهم من ذلك، أنّه كان معظم الأحيان معارضاً شرساً، لا يستسلم ولا يتوانى. وفوق ذلك كله، أنّه من بنّائي النظام الاقتصادي والمصرفي في لبنان، الذي يترنّح ويحار الرئيس دياب الآن كيف يداري سقوطه، أو يخفّف من وطأة الهبوط.