حسابات “الهيركت”: أكبر مما تظنون (1/2)

مدة القراءة 6 د


بات “الهيركت”، أو الاقتطاع من الودائع المصرفية، واقعاً لا محالة، مهما كان شكله أو مسمّاه. لكن يبقى السؤال عن المعادلة التي تحكمه. النظرة الأولية في الأرقام تشير إلى خطأ في حسابات من يقولون إنّه يمكن أن يقتصر على أصحاب الملايين من دون أن يتفشّى نزولاً إلى أصحاب الدخل المتوسط والمحدود.

كيف ذلك؟

القاعدة التي ساقها رئيس مجلس الوزراء حسان دياب في خطاب السابع من آذار هي الحفاظ على تسعين في المئة من الحسابات المصرفية من دون مسٍّ بها. المفهوم ضمناً أنّ الاقتطاع  قد يطول العشرة في المئة الأكثر امتلاءً من الحسابات المصرفية. غير أن دياب لم يوضح ما يعنيه ذلك على مستوى الحدّ الفاصل بين شمول الحساب بـ “الهيركت” من عدمه: هل هو مليون دولار أم 500 ألف أم مئة ألف. وخرج وزير الاقتصاد راؤول نعمة بعد ذلك ليوضح أن المطروح ليس “هيركت” بل “إنقاذ داخلي” (bail-in) للبنوك من أموال المودعين، على النحو الذي جرى في قبرص إبان أزمة الديون اليونانية.

إقرأ أيضاً: هل يوافق “صندوق النقد” على دعمنا؟

فما الذي يمكن استتنتاجه؟ وهل بإمكان دياب الوفاء بوعده إبقاء تسعين في المئة من الحسابات خارج دائرة الاقتطاع؟

لا بدّ، ابتداءً، من شرح موجز لدواعي “الهيركت”، وكيف تحتسب معادلته، للوصول إلى استشراف لما ينتظر أموال المودعين.

الودائع المصرفية هي مطلوبات مستحقّة على البنوك للعملاء، أي أنّها أشبه بدين في ذمة البنك. وهي تصبح مهددة عندما يواجه البنك خسارة كبيرة في موجوداته، أي في الجهات التي يوظف فيها أموال المودعين. عندما يسجل البنك خسارة كبيرة في موجوداته، أي توظيفاته، لا بد أن “يمتصها” من أموال المساهمين ابتداءً، فإن كانت الخسائر أكبر من ذلك يمكن اللجوء إلى رأسمال جديد يضخه المساهمون الحاليون أو مساهمون جدد، وإلاّ فلا مفرّ مد اليد إلى أموال المودعين. لا بد إذاً من التوصل إلى رقم تقريبي للخسائر المتوقعة لمعرفة حجم الفجوة التي لا بدّ من سدها.

لدى البنوك اللبنانية، كما في آخر البيانات المتوفرة، نحو 159 مليار دولار من الودائع، ثلاثة أرباعها تقريبا بالدولار، والباقي بالليرة. هذه الودائع موظفة غالبا في ثلاثة بنود رئيسية:

– الديون الحكومية: تحمل البنوك منها نحو 30 مليار دولار، 40% منها تقريبا يوروبوندز دولارية، والبقية سندات بالليرة اللبنانية.

– التوظيفات لدى مصرف لبنان: تفوق مئة مليار دولار، من ضمنها شهادات إيداع بالدولار تقارب 52 مليار دولار، واحتياطيات إلزامية بنحو 18 مليار دولار.

– التسليفات للقطاع الخاص، وهي باتت أقل من 50 مليار دولار، بعد تراجعها بشكل حاد في الأشهر الماضية.

وفق المعايير الدولية الشائعة، يعتبر الدين العام في مستوى الاستدامة إذا كان بين 60% و80% من الناتج المحلي الإجمالي. لنفترض أن الناتج المحلي اللبناني يقارب 50 مليار دولار (سينخفض دون هذا الرقم على الأرجح في ظل الأزمات الراهنة)، فلا بد أن ينخفض الدين العام في إعادة الهيكلة إلى 40 مليار دولار كحد أقصى، من مستواه الحالي عند 90 مليار دولار. أي لا بد من الاتفاق مع الدائنين على خصم 55% إلى 60% من أصل الدين على أقل تقدير. هذا يعني خسارة للبنوك في توظيفاتها بالدين الحكومي فقط تتراوح بين 16 و18 مليار دولار.

في ما يتعلق بمصرف لبنان، الصورة أقل وضوحاً، لكن وفق تقديرات “فيتش”، ثمة فجوة دولارية لديه تزيد على 30 مليار دولار، وهذا يفترض إعادة هيكلة لميزانية مصرف لبنان تتضمن شطبا لما قد يصل إلى 50% من شهادات الإيداع الدولارية التي توظفها البنوك لديه، خصوصا وأن مصرف لبنان سيسجل هو الآخر، خسارة ثقيلة من إعادة هيكلة الدين الحكومي، قد تصل إلى ثلاثة مليارات دولار في “اليوروبوندز” وحدها، قبل أن نصل إلى إعادة هيكلة السندات بالليرة. هذا يعني شطب 26 مليار دولار أخرى من موجودات البنوك.

تبقى تسليفات القطاع الخاص، والتي تقدر نسبة التعثر فيها حالياً بنحو 12%، وربما ترتفع مع اشتداد الأزمة. لكن لنفترض خسارة فيها بنسبة 10%، أي بنحو خمسة مليارات دولار.

من مجمل الأرقام أعلاه، ومع بعض التحفظ، يمكن توقع خسائر في موجودات البنوك تتراوح بين 40 و45 مليار دولار، من دون الأخذ في الاعتبار الحساسية لأي خفض محتمل لسعر الصرف الرسمي. وبما أن القاعدة الرأسمالية للبنوك (حقوق مساهمي البنوك أو الشريحة الأولى من رأس المال – tier 1 capital) تبلغ حاليا نحو 22 مليار دولار، فهذا يعني أنها ستصبح بالسالب 20 مليار دولار، في أفضل الأحوال.

ليس منتظراً أن يساهم أصحاب البنوك في سدّ فجوة رأسمالية بأكثر من أربعة مليارات دولار، في أكثر السيناريوات تفاؤلاً. ولا يبقى إذذاك إلاّ اللجوء إلى أموال المودعين لإعادة رسملة البنوك

سنفترض أنه بعد إعادة الهيكلة سينخفض حجم القطاع المصرفي، أي موجوداته، من 210 مليارات دولار تقريباً، كما في نهاية 2019، إلى مئة مليار دولار، أخذا في الاعتبار انخفاض الدين الحكومي وإعادة هيكلة مصرف لبنان، وانخفاض حجم التسليفات للقطاع الخاص، وتخارج البنوك من وحداتها الخارجية.  قد يقلص ذلك حجم القاعدة الرأسمالية المطلوبة للقطاع إلى عشرة مليارات دولار، مع دمج البنوك الصغرى في أخرى أكبر حجماً.

هذا يعني أن هناك فجوة تساوي 30 مليار دولار تقريبا (هي مجموع سالب 20 مليار دولار الناجمة عن القيمة السلبية لحقوق مساهمي البنوك + 10 مليارات دولار هي القاعدة المطلوبة بعد إعادة الهيكلة). ليس منتظراً أن يساهم أصحاب البنوك في سدّ فجوة رأسمالية بأكثر من أربعة مليارات دولار، في أكثر السيناريوات تفاؤلاً. ولا يبقى إذذاك إلاّ اللجوء إلى أموال المودعين لإعادة رسملة البنوك.

لا بدّ إذاً من خصم ما بين 25 إلى 30 مليار دولار من الودائع، أو تحويلها إلى أسهم في البنوك بسعر غير منصف، أي ما يتراوح بين 16% و20% من الودائع، وفق أخر البيانات، وقد ترتفع النسبة مع مرور الوقت وانخفاض الودائع. وهذه أرقام تفوق بكثير التقديرات الشائعة، والتي يستند إليها كثير من السياسيين في تفكيرهم وخطاباتهم.

هل يمكن خصم هذا الرقم من أصحاب الملايين، وإعفاء صغار المودعين؟

الجواب السريع أن الافتراضات المتفائلة في هذا الإطار تستند إلى كثير من الحسابات الخاطئة، وهذا ما سيأتي تفصيله في المقال اللاحق.

 

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…