مضت سبعة عشر عاماً على آخر حرب بين الحزب وإسرائيل. ذاك وقت طويل لحزب يقوم أساس فكرته على أنّه (وإيران) “العدو رقم 1” لإسرائيل. لكنّ قرار الدخول في الحرب معها لم يكن يوماً أصعب ممّا هو اليوم.
السيناريو الإسرائيلي للحرب على غزّة بات واضحاً:
– إسقاط “حماس” على طريقة بشار الأسد والميليشيات الإيرانية في سوريا.
– حصارٌ كامل ودمار شامل بكثافة نارية تستبدل فيها براميل البارود بصواريخ الأرض جو، لتهجير المدنيين في نهاية المطاف نحو سيناء المصرية.
– واجتياح برّي يعتمد سياسة الأرض المحروقة للقضاء على البنية العسكرية لـ”حماس”.
مضت سبعة عشر عاماً على آخر حرب بين الحزب وإسرائيل. ذاك وقت طويل لحزب يقوم أساس فكرته على أنّه (وإيران) “العدو رقم 1” لإسرائيل. لكنّ قرار الدخول في الحرب معها لم يكن يوماً أصعب ممّا هو اليوم
من المفارقات أن يكون بنيامين نتانياهو هو من اتّخذ قرار القضاء على “حماس”، بعدما كان يتردّد على لسانه لسنوات طويلة وصفها بـ”الذخر” الاستراتيجي لإسرائيل، ما دام الانقسام الفلسطيني ذريعة ملائمة لتسويق مقولة “عدم وجود شريك فلسطيني”، التي بنى عليها قتل عملية السلام على مدى 14 عاماً.
تغيّر الأمر حين أصبح مصير نتانياهو معلّقاً بمصير “حماس”، وبات أمله الوحيد بعدم انتهائه سياسياً أن يقضي على وجودها العسكري جذرياً، مع علمه التامّ بثمن الفشل في هذه المغامرة.
يبدو الغطاء الأميركي متوافراً لهذه العملية، وبقدر أقلّ الغطاء الأوروبي، وهو ما تجسّد بالبيان الذي وقّعت عليه الدول الأوروبية الكبرى إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. لكنّ حدود هذا الغطاء ليست واضحة، وكذلك المدى الزمني المتاح أمام نتانياهو لتنفيذ المهمّة.
توقيت “حماس”: إيرانيّ أم سعوديّ؟
الأهمّ أنّ الغطاء الدولي لا يكفي لنجاح لإسرائيل، فيما موقف الدول الكبرى في الإقليم معاكس. فخلافاً لبعض التبسيط الشائع من أنّ عملية “حماس” كانت بتوقيت إيراني، هناك في الدوائر الدبلوماسية من يرجّح أن تكون ساعة الصفر الحمساويّة قد ضُبطت على توقيت متوسّط بين المناطق الزمنية للعديد من العواصم في المنطقة، وقد لا تكون طهران الأقرب من بينها.
معظم الدول العربية، على ما بينها من تباين، لديها مشكلة كبيرة مع نتانياهو وحكومته الأسيرة للتحالف مع اليمين الديني المتطرّف بزعامة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. فهذه التركيبة السياسية في إسرائيل لا يمكن لها أن تقدّم الحدّ الأدنى من التنازلات لإنتاج اتفاقية تطبيع مع السعودية، على الرغم من كلّ الدفع الأميركي لإنجازها في السنة الأخيرة من ولاية جو بايدن. ذلك أنّ مسار المفاوضات بين واشنطن والرياض لم يكن محسوماً، وقد بدا ذلك بوضوح من تصريحات المسؤولين السعوديين والإسرائيليين على حدّ سواء. فوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان واضح ومحدّد في اشتراطه حلّ القضية الفلسطينية وإنشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وهذا هو مغزى تعيين قنصل عامّ سعودي في القدس.
في المقابل، بدا نتانياهو في الأسابيع القليلة الماضية رافضاً لتقديم أيّ تنازل عن البرنامج اليميني المتطرّف، من رفض إنشاء دولة فلسطينية، إلى التمسّك بيهودية القدس بكاملها، وصولاً إلى ضمّ مستوطنات الضفّة الغربية. وكلّ ما خرج به هو التمسّك بمقاربته التقليدية (outside-in)، بما تعنيه من عقد الاتفاقيات الاقتصادية مع الدول العربية كسبيل لجعل القضية الفلسطينية ثانوية.
ما زالت عملية “حماس” فلسطينية، كما يشدّد مسؤولوها، والراجح أنّ إيران لم تكن تعلم بها مسبقاً. وما زالت “حماس” نفسها تنظيماً حليفاً لإيران، لكنّه لا ينتمي عضوياً إلى تشكيلاتها الأمنية والعسكرية
الأردن ومصر أيضاً…
الأردن بشكل خاص لديه هواجسه من مقاربة نتانياهو لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي. إذ إنّ الدولة الفلسطينية مسألة وجودية لقطع الطريق على فكرة “الوطن البديل”، ومشاريع “الترانسفير” القديمة والمتجدّدة. وفي هذا السياق يمكن فهم صمت عمّان تجاه مشروع الممرّ الاقتصادي من الهند إلى أوروبا، على الرغم من أنّه يمرّ في الأردن.
أمّا مصر فتواجه منذ سنوات الاستهداف الإسرائيلي لدورها المركزي في الإقليم. ووصل التحدّي إلى مستوى آخر عندما أصبح المشروع الإسرائيلي شبه معلن لتهجير الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء، لتصبح الأرضَ البديلة للديمغرافيا التي تريد إسرائيل التخلّص منها.
هكذا يصبح اجتياح غزّة تحدّياً لمصر وأمنها القومي وسيادة أراضيها، ولذلك أتى الردّ سريعاً عبر وسائل الإعلام المصرية نقلاً عن مصادر رسمية، برفض أيّة محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها.
يقتضي المنطق السياسي الجزم أنّ “حماس” لم تكن لتقدم على عملية كبرى من هذا النوع لولا اطمئنانها إلى الثوابت التي تحكم الموقف المصري من الحقّ الفلسطيني. وربّما يفهم كثيرون الآن لماذا كانت مصر تغلق معبر رفح في محطّات معيّنة حين كانت تجد محاولات إسرائيلية لتصدير الأزمات إلى أراضيها، على حساب وجود الفلسطينيين في أرضهم.
حرب تفتح أفق السلام
في مقابل انخراط القاهرة في الأزمة وإمساكها بالكثير من أوراقها، بات واضحاً أنّ لدى إيران والحزب إشكالاً في التعامل مع الهجوم الإسرائيلي على غزّة، لا يكفي معه إمداد “حماس” بالسلاح والمشورة للصمود. فلو قُدّر لهذه الحرب أن تدور رحاها من دون تدخّل الحزب المباشر فإنّها، بالقسمة المنطقية، لن تخرج عن أحد مسارين:
– إمّا أن تنتهي بوقف لإطلاق النار من دون منجز إسرائيلي صريح، وعندها سيُحدِث انتصار “حماس” هزّة سياسية كبرى تطيح بحكومة اليمين الإسرائيلي وبالمستقبل السياسي لنتانياهو.
– والاحتمال الثاني نظريّاً هو أن يسقط حكم “حماس” وتعيد إسرائيل احتلال قطاع غزّة. والواضح من المصادر العسكرية الإسرائيلية أنّها رسمت سيناريو لحصار طويل للضغط على مصر لفتح المعابر، واستقبال موجة تهجير جديدة للفلسطينيين باتجاه سيناء.
لن تكون حصيلة أيّ من المسارين في مصلحة إيران والحزب ما لم يشترك الأخير في الحرب. فهزيمة نتانياهو ستقلب المعادلة السياسية الإسرائيلية، لكنّها لن تطيح بمسار التطبيع، بل ربّما تؤخّره قليلاً، وفي أقصى الحالات إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
يقتضي المنطق السياسي الجزم أنّ “حماس” لم تكن لتقدم على عملية كبرى من هذا النوع لولا اطمئنانها إلى الثوابت التي تحكم الموقف المصري من الحقّ الفلسطيني
في نهاية المطاف ستكون مفاعيل الحرب شبيهة بحرب أكتوبر 1973، من حيث إنّها ستفتح أفقاً جديداً لعملية السلام واتفاقيات التطبيع بشروط موضوعية مختلفة عن تلك التي كانت متاحة في وجود ائتلاف اليمين الإسرائيلي المتطرّف. أمّا إذا حقّقت إسرائيل منجزاً لا جدال فيه في الميدان، فسيكون ذلك، كما قال نتانياهو، مولداً لشرق أوسط جديد أميركي – إسرائيلي. وهذا ما لا مصلحة فيه لأيّ من القوى الدولية والإقليمية الأخرى.
مأزق إيران أنّ قدرتها محدودة على التدخّل في مسار الأحداث هذه المرّة، لأنّها ضنينة بالتضحية بما حقّقه مسار التفاوض مع واشنطن، تحت الطاولة وفوقها، بعدما حقّقت مكسباً كبيراً بالإفراج عن ستّة مليارات دولار من أموالها المجمّدة في كوريا الجنوبية، والتخفيف غير المعلن للعقوبات، بما أتاح لها رفع إنتاجها النفطي بنحو مليون برميل يومياً مقارنة بمستويات العام الماضي.
يبدو أنّ هذا الحرص متبادل مع إدارة بايدن، وهذا ما جعل وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وآخرين في الإدارة، يحيّدون طهران وينفون أيّة مسؤولية لها عن عملية “حماس”.
لذلك، على الرغم من كلّ التجارة الإعلامية الرائجة، أتى على لسان المرشد علي خامنئي شخصياً النفيُ الرسمي الإيراني للخبر الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الإثنين، والذي أشار إلى أنّ قرار هجوم “حماس” الكبير في العمق الإسرائيلي اتُّخذ في بيروت، وفي ضيافة الحزب، بحضور ممثّلين عن الحرس الثوري.
لكنّ اللافت في ذلك الخبر أنّه أتى مواطئاً لأجواءٍ قريبةٍ من هذا المعنى كان يُشيعها مدوّنو الحزب في وسائل التواصل الاجتماعي، من قبيل نشر صورة اجتماع الأمين العام للحزب مع وفد “حماس” قبل أسابيع، على سبيل الربط السببي بين الحدثين. وليس بعيداً من ذلك الاحتفالات المنظّمة أمام ضريح قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني في طهران، للإيحاء بأنّ العملية من صنع تنظيمه.
“وول ستريت”… ودوافع الحزب
من اللافت أنّ “وول ستريت جورنال” تنسب خبرها إلى ثلاثة مصادر في الحزب و”حماس” وإيران. وبغضّ النظر عن دوافع الصحيفة لأخذه على محمل الجدّ ونشره، فإنّه يحيل إلى السؤال الأهمّ عن دوافع الحزب لتسريب هذا الخبر لصحيفة أميركية.
يشير التناقض بين تسريب الخبر ونفيه إلى مأزق إيران في التعامل مع الحدث الفلسطيني. فهي من جهة لا تريد أن تبقى خارج ساحته، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، لئلّا تخسر فرصة المشاركة في رسم مآلاته. ومن جهة أخرى، لا تريد أن تضحّي بمكتسبات التفاوض مع إدارة ديمقراطية لا يُعرف إن كانت ستظلّ في البيت الأبيض بعد انتخابات الرئاسة الأميركية العام المقبل.
إقرأ أيضاً: لهذه الأسباب… الحزب لن ينضمّ إلى “طوفان الأقصى”؟
حتى الآن، ما زالت عملية “حماس” فلسطينية، كما يشدّد مسؤولوها، والراجح أنّ إيران لم تكن تعلم بها مسبقاً. وما زالت “حماس” نفسها تنظيماً حليفاً لإيران، لكنّه لا ينتمي عضوياً إلى تشكيلاتها الأمنية والعسكرية.
مأزق الحزب، ومن ورائه إيران، أنّه لا يستطيع التراجع إلى “الرقم 2” في قائمة أعداء إسرائيل إذا صمدت “حماس”، ولا يمكنه أن يستعيد “الرقم 1” إذا نُفّذ القرار الإسرائيلي بالقضاء على “حماس” وهو يتفرّج.
ليس أمام إيران إلا أن تختار بين أن تخسر “راية فلسطين” أو أن تخسر بايدن.