تدور الحرب الكبرى على مواقع التواصل الاجتماعي. هناك لا قدرة للمقاومين على المواجهة. فهذه المنصّات تملكها شركات غربية، أصولها وفروعها وأموالها وإعلاناتها كلّها في الغرب وفي الدول المحايدة أو التي تدور في فلك الغرب. وها هو الاتحاد الأوروبي يفرض على شركة “ميتا” التي تملك وتدير فيسبوك وإنستغرام وواتساب وشركة “إكس” (تويتر سابقاً) وغيرها من مواقع التواصل تقييد ومحو كلّ ما يدعم “حماس” والقضية الفلسطينية. وما على الشركات إلا أن تمتثل وإلّا تواجه عقوبات جديّة. وبالتالي تتبنّى “آلهة” السوشيل ميديا السردية الإسرائيلية، وتحارب كلّ من لا يلتزم بها، في اعتداء موصوف على حرّية التعبير التي يتغنّى بها الغرب ومؤسّساته، وفي “تقديس” جديد للتضليل الإعلامي.
في 10 تشرين الأول 2023، هَدَّدَتِ المُفَوَّضِيَّةُ الأوروبيَّةُ مِنَصَّةَ “إكس X” بِفَرضِ عُقوباتٍ عليها، وَدَعَت مالكها إيلون ماسك إلى “حَذفِ كُلّ ما يُتَداول مِن مُحتَوى كاذِبٍ مُرتبطٍ بالنِّزاعِ، خلال 24 ساعة”. وَذَكَرَ تييري بريتون، المُفَوَّضُ الأوروبّيُّ للشّؤونِ الرّقمِيَّةِ، في رسالةٍ: “عندما تَتَلَقّى إِخطاراتٍ بِشَأنِ مُحتوى غير قانونِيّ تِبعاً لِلَوائِحِ الاتّحادِ الأوروبّيِّ، وَجَبَ عليك التّصَرُّف بِسُرعَةٍ مُجدِيَةٍ وَمَوضوعِيّة وإزالة المحتوى المَعنِيّ والمُضَلِّل”. وأضافَ في مَنشورٍ على X: “في أعقابِ الهَجَماتِ الإرهابِيَّةِ التي شَنَّتها “حَماسُ” ضِدَّ إسرائيل، لدينا مُؤشّراتٍ إلى استخدامِ X لِنَشرِ مُحتوى غَير قانونيّ وَمَعلوماتٍ مُضَلّلَةٍ في الاتّحادِ الأوروبيِّ”.
تدور الحرب الكبرى على مواقع التواصل الاجتماعي. هناك لا قدرة للمقاومين على المواجهة. فهذه المنصّات تملكها شركات غربية، أصولها وفروعها وأموالها وإعلاناتها كلّها في الغرب
وَبِحَسَبِ وَكالَة رويترز، فإنَّ المُفَوَّضَ الأوروبيّ للقَوانينِ الرَّقمِيَّةِ قَد قالَ: “المُحتَوى المُتَداوَلُ عَبر الإنترنت والذي منَ المُمكِنِ أن يَرتبطَ بِـ”حَماس”، يُعَدّ مُحتَوى إرهابِيّاً، وَهُوَ غَير قانونيِّ، وَتجب إزالته بِموجِب قانونِ الخَدَماتِ الرَّقمِيَّةِ، واللّائِحَةِ التّنظيمِيَّةِ لِلحَدِّ مِنَ المُحتوى الإرهابيِّ عَبرَ الإنترنت”. وَسَيَتِمّ تطبيق القانون الأوروبيّ على المِنَصّاتِ الرَّقميَّةِ الّتي لا تَمتَثِلُ لِهذا القانونِ”.
وكان المُمَثّلُ الأوروبّيُّ قَد غَرَّدَ على “إكس” رَدّاً على “إيلون ماسك” بأنَّ المُحتَوى الإرهابيّ لم يُحذَف على الرّغمِ مِنَ الرَسالةِ التي وُجّهَت إلى “إيلون ماسك”. وقالَ “ماسك” في تغريدَةٍ إنَّ المِنَصَّةَ قد أزالَت كلَّ الحساباتِ الجَديدةِ التّابِعَةِ لحركةِ “حَماس”. وَطَلَبَ مِنَ المُفَوَّضِ الأوروبيِّ “تيري بريتون” أن يُبَيِّنَ لَهُ الانتهاكات على المِنَصَّةِ. وَلكِن مِن خِلالِ مُتابَعَةِ حِساب المُفَوَّض الأوروبيّ لَم يَتَبَيَّن لَهُ أيّ تفاصيل حَول المَعلوماتِ المَزعومَةِ.
إلى ذلك حَذّرَت “بروكسل” شَرِكَةَ “ميتا” يوم الأربعاء مِن تَزايُد المَعلوماتِ الكاذِبَةِ، وَدَعَت رَئيسَها “مارك زوكربيرغ” إلى اتّخاذِ الإجراءاتِ الّلازمةِ لِمُعالجتها. وقامت “ميتا” بإجراءٍ قَيّدَت من خلاله التّوزيعَ على إنستغرام لكلماتٍ معيّنة تدعم القضيّة الفلسطينيّة يُحجب المحتوى عندما يقوم المستخدم بالبحث عنها. وتنفيذاً لتحذير الاتّحاد الأوروبيّ لشبكات التواصل على أنواعها فقد أعلنت شركة “ميتا” أنّها حذفت محتوى ما يقارب ثمانمئة ألف منشور وصورة وفيديو، كان أغلبها مؤيّداً لحركة حماس.
وكان أوّل ما قامت به شركة “ميتا” بعد طلب الاتحاد الأوروبي هو إيقاف حساب “شبكة قدس الإخبارية” التي يتابعها 10 ملايين شخص وحسابات “حماس” على الشبكة. يشير المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي في فلسطين في تقرير له إلى تصاعد خطاب العنف والكراهية والعنصرية والتحريض على قتل الفلسطينيين في منشورات باللغة العبرية لا يتمّ حذفها.
وجّه الاتحاد الأوروبي هذا التحذير إلى شركات التكنولوجيا مهدّداً إيّاها بفرض عقوبات قانونية بشكل مباشر إذا لم تحذف أيّ محتوى مؤيّد لحركة حماس على منصّات التواصل الاجتماعي. ففي أعقاب الهجوم الذي شنّته المقاومة الفلسطينية على مستوطنات الصّهاينة ازدادت المعلومات المتداولة على شبكات التواصل، ومنها ما هو صحيح ومنها ما هو مُفبرك بالأخصّ من الجيوش الإلكترونية التي يجنّدها الجيش الإسرائيلي.
تضليل نتانياهو.. لم يُمحَ بعد
جاء التّضليل الأكثر تعمّداً من رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتانياهو عندما عرَض على حسابه صوراً ادّعى فيها أنّها لطفل مُتفحّم.
لم يحذف نتانياهو ما كتبه حتى الآن وجرى على أساسه بناء وتبنّي السردية الغربيّة. ويقول فيه إنّ المقاومين “أحرقوا عشرات الأطفال وأعدموهم وقطعوا رؤوسهم. لم نشهد مثل هذه الوحشية في تاريخ دولة إسرائيل. إنّهم أسوأ من “داعش”، وهكذا يجب أن نتعامل معهم”.
كان الإعلامي الأميركي، جاكسون هنكل قد كشف، أنّ صور الأطفال المحترقة التي عرضها نتانياهو على حسابه على X والتي عرضها على وزير خارجيّة أميركا، كانت مُصَنّعة بالذكاء الصناعي. وبَيّن الإعلامي أنّ الصورة التي عُرضت لطفل محترق ما هي إلّا صورة لكلب كان يتلقّى العلاج، وقد تمّ استبدالها بصورة متفحّمة.
تُستخدم في هذا المنشور كلمات مفتاحية من المفترض أن تُحذف إذا أردنا أن نتمتّع بالمصداقيّة لأنّها غير محايدة، لكنّ ذلك لم يحدث. والمطلوب من الاتّحاد الأوروبيّ إبراز كلّ ما يتعلّق بالمنشورات الدّاعمة لإسرائيل لا تلك التي تُبيّن الجرائم التي يرتكبها الصّهاينة.
هذا ووقع الإعلام الكلاسيكيّ في فخّ المعلومات الكاذبة. فقد اعتذرت مذيعة “السي إن إن” سارة سيندر عبر تغريدة لها عن قولها إنّ “حماس” تقطع رؤوس الأطفال. وهذا الخبر تبنّاه الرئيس الأميركي، ولكنّ البيت الابيض عاد ونفى التصريحات وأعلن أنّه لم يتأكّد من الخبر كما فعلت المذيعة. تبيّن لاحقاً أنّ هذه الصور كانت مُفبركة ومُصمّمة لاستخدام تطبيقات الذّكاء الصناعي.
حقوق الإنسان… الإسرائيليّ
يكفي أن نسوّق للمقولة التي رأت أنّ الهجوم الذي قامت به “حماس” شبيه بـ11 أيلول الأميركي، لنعرف مدى توجيه الرأي العام الغربي الذي تشّرب الإسلاموفوبيا، أي معاداة الإسلام وشعوبه، ومحاولة إقناعه بأنّ ما حصل هو عملية إرهابية قام بها مسلمون عرب، لا مقاومون يحاربون دولة عنصرية محتلّة.
في فرنسا مثلاً، لا نشاهد المجازر على شاشات التلفاز وصور مجازر الأطفال التي يقوم بها الصهاينة، بل فقط الأخبار التي تتناسب مع اللّوبي الصّهيونيّ الّذي يتحكّم بالإعلام الفرنسيّ. ولتأكيد التحيّز الغربي ولممارسة التعمية الإعلامية، أوقفت الشركة الفرنسية المسؤولة عن القمر الصناعي “يوتل سات” Eutelsat، بثّ “قناة الأقصى”، وفق ما أعلنت القناة مساء السبت استجابة لضغوط الحكومة الفرنسية وخضوعاً لحكومة الاحتلال. ويعتبر ذلك منافياً لكلّ الحقوق الدولية التي تكفل حرّية التعبير. لكن عن أيّ تعبير نتحدّث عندما تكون المنظومة الإعلامية الأوروبية محكومة متصهينة حتى العظم؟
مراسلة CNN تعتذر.. ولكن
ما قالته مراسلة CNN سارة سيدنر التي تبنّت ما كتبه نتانياهو، شاهده عشرات الملايين، وأمّا اعتذارها فكان عبر تغريدة على X لم يشاهدها ربع ربع من تبنّوا كلامها عن أنّ “حماس” قطعت رؤوس الأطفال.
على الرغم من هذا، للمقاومة أشكال وأشكال. فمع كلّ هذا الحصار الغربيّ أدّى الانفتاح الشبكيّ إلى أن تصبح القضيّة الفلسطينيّة عالميّة، مهما حاولوا تعميتها. ومن الواضح أنّ التّأثيرات الإعلاميّة لها دور بارز في الحروب، كي لا نقول دوراً أساسياً. وكما تغيّرت صورة العالم تغيّرت أيضاً أدوات الحروب وأنماطها. فالمواجهة الرقمية ومقاومتها لظاهرة الحجب الرقميّ تجريان بأساليب عديدة أهمّها تعمية خوارزميات التّعرف الآلي على الكلمات العربية من خلال كتابتها بأحرف أجنبية، فعلى سبيل المثال بدل أن نكتب “حماس” نكتب 7ماS، وهذا ما ساهم في تغيير بعض المعادلات.
الرغبة في السيطرة على وسائل الإعلام العالمية واحتكار الحقائق، ومحاولة الهيمنة على إدارات المنصّات الأساسية وتشويه الرواية، أدّت إلى انحياز وسائل الإعلام، وإفقادها توازنها ومصداقيتها، وبالتالي تشوّهت صورة التغطية الإعلامية في ذهن المتلقّي
انطلاقاً من ذلك، يبيّن طرح الاتّحاد الأوروبيّ حجم التضليل الذي يطال الفلسطينيين، بعدما أصبح متن شبكات التواصل شاهداً فعليّاً على ما يحصل.
ليست الخوارزميات محايدة، فقد تتّخذ خوارزميات منصّات التواصل الاجتماعيّ قرارات غير حيادية تتبع توجّهات المبرمجين، وهو ما يضع المستخدم في دائرة تقييد حرّية التعبير من خلال فرض ما يمكن نشره أو ما لا يمكن نشره.
هذه واحدة من سلوكيات القوى الإعلامية نفسها لإخفاء جرائم لا تناسب سياساتها بحقّ بعض الشعوب، وخاصة الشعب الفلسطيني، وتحاول تشويه الرواية وقلب المعادلات لمصلحتها، من خلال تقديم صورة مزيّفة للوقائع، تهدف إلى توريط الضحية بعمل المجرم كما يفعل نتانياهو على حسابه على إكس X.
احتكار “الرواية”… والظلم
هذه الرغبة في السيطرة على وسائل الإعلام العالمية واحتكار الحقائق، ومحاولة الهيمنة على إدارات المنصّات الأساسية وتشويه الرواية، أدّت إلى انحياز وسائل الإعلام، وإفقادها توازنها ومصداقيتها، وبالتالي تشوّهت صورة التغطية الإعلامية في ذهن المتلقّي.
يجب القول إنّه خلال الصّراع العالميّ الذي تتحكّم فيه قوى عالمية مسيطرة تصبح المفردات مغربلة حسب ما يتناسب مع المهيمن. فالكلمات مثل “إنهاء العنف”، و”وقف إطلاق النار”، و”استعادة الهدوء”، باتت ممنوعة من التداول بناء على طلب من الخارجية الأميركية لكلّ السياسيين والمتحدّثين الرسميين، لأنّها من الممكن أن توحي بأنّها دعوة إلى التخفيف من حدّة الحرب على الفلسطينيين.
إقرأ أيضاً: قوانين “مواجهة” الذكاء الصناعيّ (3/3): الخليج… و”ثقافة العرب”
إلا أنّ الوعي الإعلامي لدى الشعوب المظلومة لمدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعيّ في الرأي العام، دفع مؤيّدي بعض القضايا العادلة إلى الضّغط على الجهات المؤثّرة، وخصوصاً وسائل الإعلام الغربية، لنشر صور ومقاطع توثّق الانتهاكات والجرائم التي تمارَس بحقّ بعض الشعوب. وإذا كانت صورة الواقع التي لا نريد لها أن تكون واضحة، لكن لا يمكن مع الوقت إخفاء الحقيقة والجرائم إلى الأبد.
إنّها حرب مفتوحة في العالم الرقميّ، حيث التفوّق للغرب، لكنّ المقاومة هناك ممكنة أيضاً.
*استاذ باحث في حوسبة اللغة والإعلام الرقمي، ورئيس مركز الأبحاث في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ghasmrad@