بين زيارتيّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، شغلت زيارة من نوع آخر، لـ”فرنسي” آخر، قلّة قليلة من اللبنانيين، الذين احتفوا بالزائر المميّز، عبر زيارته المميّزة بأسلوب مميّز ومن دون ضجيج. الزائر كان جورج شحادة، الشاعر اللبناني الاسكندراني الفرنسي، وزيارته كانت عبر إصدار مصلحة البريد اللبناني طابعاً من فئة خمسمئة ليرة عليه صورة “آنق وأجمل شعرائنا”، بحسب تعبير الروائية رشا الأمير الموفّق تماماً، والتي كانت أول من أحتفى بالخبر على فايسبوك مرفقة صورة الطابع بقصيدة لشحادة من ترجمتها: “شأنَ ما تُوجِعُه هذه البحيرات/ عندما يغمرها الخريفُ وتزرورق/ شأنَ الماء في خريره / الذي لا يُتقِنُ سواه /هيهات منكِ السكينةُ أيّتها الحياة / حياتي / ترحلُ عصافيرٌ وفي إثرها ترحلُ عصافير / سُباتها ملء البلاد / أمّا أنتِ بين عرائش هذا السهل / فرائد وجهك / وداعات … لا تنقضي”.
إقرأ أيضاً: عن الشاي السريلانكي والأرواح التي تبخّرت
شخصياً تعرفتُ إلى هذا الشاعر العظيم من خلال عمل بحثي عن بيروت. قادني عملي على رسالة ماجيستير عن ساحة البرج إلى قراءة عشرات الكتب عن بيروت، ووجدتُ أنّ معظم من كتبوا عن عاصمتنا، في التاريخ والعمارة والتنظيم المدني والسياسة والمجتمع، معظمهم كان يحيل بتودّد وتحبّب إلى جورج شحادة. أذكر في إحدى الجلسات مع المشرف على الرسالة الدكتور شوقي دويهي صاحب كتاب “مقاهي بيروت الشعبية”، أنّ الحديث في المقهى جرّنا إلى حديث عن المقابر. أمسك دويهي دفتر ملاحظاتي وأخذ قلماً وكتب عليه بخطّ يده بالفرنسية: “ما هي المقبرة؟ إلا بستان صغير وحكايات؟”. الجملة بدت لي ساحرة. مثلها كمثل الجملة التي استعان بها جاد تابت (نقيب المهندسين الحالي) في كتابه عن “الإعمار والمصلحة العامة”، ويقول فيها شحادة “أما البحرُ فناءٍ كالترحال والبلدان تهيم في البلدان…”. سمير قصير بدوره في كتابه “تاريخ بيروت”، وخلال حديثه عن فخامة البيوت القديمة لبيروت، مع القرميد الذي يكسو سطوحها وحدائقها الخاصة الفوّاحة برائحة الياسمين والغاردينيا، يستعين بجورج شحادة ليشهد على هذه الأجواء: تظهر قصائده الأولى عن هذه المدينة، حيث استقرّ لتوّه، المنازل “الناعسة خلف ستائرها بأعينها المذهولة كأعين الأسماك” في أصائل الصيف، بشرفاتها “التي تؤرجح غسيلاً قمرياً”، وأطنافها “المرتعشة في الماء” وأسيجتها “المشبوكة في حديد الأشكال وياسمينها” فيما “صخب الأشياء يوسع خطاه فوق جدران الحدائق ونوافير الماء تقفز كالقطط في فساتين البرك”.
مسرح شحادة لا يقل أهميّة عن شعره، وهو لم يكتب إلا باللغة الفرنسية وكان تعرّف على معظم أدباء الفرنسية الكبار ومنهم سان جون بيرس (الذي نشر له أول قصيدة) وأندريه بروتون وبول إيلوار وماكس جاكوب ورينيه شار
لقد أحبّ شحادة بيروت حباً كبيراً. وأحبّه كلّ من أحبّ واشتعل على بيروت كموضوع لعمله الفني أو الهندسي أو السوسيولوجي. كتب الشاعر جوزف عيساوي على حسابه على فايسبوك، بعد مشاركة صورة الطابع من حساب فارس ساسين، الباحث والأستاذ الجامعي المهتمّ بالفلسفة والتجربة اللبنانية، والذي عمل على إعداد كتاب موسوعي عن ساحة البرج مع الراحل غسان تويني، كتب عيساوي واصفاً جورج شحادة بأنّه “شاعر الفردوس ومسرحيّ الغرابة. لعلّه أكبرشعرائنا، ولو كتب بالفرنسية”.
مسرح شحادة لا يقل أهميّة عن شعره، وهو لم يكتب إلا باللغة الفرنسية وكان تعرّف على معظم أدباء الفرنسية الكبار ومنهم سان جون بيرس (الذي نشر له أول قصيدة) وأندريه بروتون وبول إيلوار وماكس جاكوب ورينيه شار، ومن أشهر مسرحياته “سهرة الأمثال”، “قصة فاسكو”، “زهور البنفسج”، و”مهاجر برسيبان”. وحين سئل عن شخصية آنّا في هذه المسرحية الأخيرة (مهاجر برسيبان)، قال إنّها ملاك المسرحية. ولما قيل له إنّها لا تفعل شيئاً سوى تأمّل صورة المهاجر الميت المعلّقة على الشجرة، أجاب: نعم، إنّها ككلّ الملائكة لا تفيد في شيء! وقد نقل إدوار أمين بستاني هذه المسرحية إلى العربية وأخرجها أنطوان ملتقى وعرضت في مهرجانات بعلبك في العام 2004.
الشاعر المقامر الذي عرف قيمة الربح والخسارة، وعرف سموّ الشعر، توضع صورته اليوم على طابع من فئة الخمسمئة ليرة
عاش شحادة فترات طويلة في لبنان، ودعم المسرح اللبناني، وبقي في بيروت حتّى بعد نشوب الحرب في العام 1975، ولم يغادرها إلا في العام 1978 بعد وفاة والدته، فنقل إقامته إلى باريس. ويروى فارس يواكيم في مذكّراته عن لقاءاته بجورج شحادة في باريس، بحضور الكاتب اللبناني عصام محفوظ، الذي وضع كتاباً عنه عنوانه “جورج شحادة ملاك الشعر والمسرح”، وكانت، بحسب يواكيم، تجمع محفوظ وشحادة، إلى الشعر والمسرح، لعبةُ الروليت، وسأله يواكيم عن سبب حبّه للروليت فأجاب: “التشويق أولاً. أنت أمام موقف يتجدّد بأشكال مختلفة. ثم الانفعال والتوتر. ثم الفرحة بالربح وحسرة الخسارة. كلّها مواقف درامية”. ويشير يواكيم إلى أنّ شحادة كان “متعقّلاً وليس متهوّراً، ولم يحدث أن خسر مبالغ فادحة ولا ربح مبالغ خيالية. كانت المسألة تسلية أولاً وأخيراً”.
الشاعر المقامر الذي عرف قيمة الربح والخسارة، وعرف سموّ الشعر، توضع صورته اليوم على طابع من فئة الخمسمئة ليرة، وكأنما يعيد هذا “العصفور” (وحده الأبديّ لون العصافير)، رفع قيمة الليرة شعرياً ومعنوياً بعدما انهارت اقتصادياً، هو الذي عرف كيف يلخّص ما آلت إليه أحوالنا في “حكاية فاسكو”: “النصر؟ ماذا تعني هذه الكلمة عندما لا يكون شيء؟ عندما لا يملك الإنسان في فمه قليلاً من الخبز لأجل الذكرى…”.