سئم وليد جنبلاط الجبهات. تعب من الوقوف وراء المتاريس. كيفما اتجه تعترضه حواجز. لم يوفق في تحقيق حلمه بالرخاء السياسي. كان يفضّل بعد تخطّيه سنوات عمره الستين، أن يستجم سائحاً وقارئاً. عاكسته الظروف، وارتفعت الأمواج، بخلاف ظنّه أنّ التنازلات والتسويات القاسية قد تخفضّ منسوبها. عاكس نفسه وطبيعته عندما اختار “التسليم والاستسلام”، سائراً بمحاذاة الحائط طالباً السترة والهدوء. طبعه وشخصيته تأبيان عليه ذلك، فلا يركن عند زاوية إلا وينتفض غضباً، على تويتر في هذه الأيام، عائداً إلى الميدان مرّة واحدة، قبل ثورة 17 تشرين بأيام قليلة، ضد العهد الذي انتخبه معارضاً.
إقرأ أيضاً: ماذا قال جنبلاط لنصر الله؟
أراد معاكسة إرث الدماء الجنبلاطي، وإلباس العباءة للوريث بسلاسة، بلا حاجة لتزعّم تيمور كما ورثها هو، ووالده من قبله وكذلك أجداده. ارتضى الهزيمة، ناظراً إلى “وقفة جنود الله على أبواب إسرائيل، فيما “قورش الكبير” يتقدّم مع فيالقه نحو بلاد ما بين النهرين وسوريا، وقد تحصّن في لبنان واجتاح اليمن”. وكأنه يشعر بالوحدة. تحوّل وليد جنبلاط من قائد الثورة إلى قائد مهزوم لا يزال يبكي على أطلال انتفاضة 14 آذار، ويصفها بتلك الأيام الجميلة والمجيدة. تملّكه الشعور باليأس والتشاؤم، منذ العام ٢٠٠٩، عندما نظر إلى نفسه كخاسر بعد أحداث السابع من أيار والانعطافة الشهيرة.
يومها بدأت الهزيمة. كان يعتبر أنّه قادر على القتال لفترة معيّنة، لكنّ الخسارة ستكون هائلة والدروز سيتهجّرون من الجبل. بينما خاب أمله من حلفائه المسيحيين الذين نأَوْا بأنفسهم عن المعركة وفق ما يعتبر، والسنّة لم يتمكنّوا من الدفاع عن بيروت. منذ تلك اللحظة لم يعد لديه خيار إلا التسوية. لو نظر إلى التاريخ الذي يسكنه ويسكن فيه، فسيعتبر أنّه أكثر من تعرّض للخذلان، من حلفائه والقدر، وهو القدري بطبعه. يسلّم للتاريخ مساره، وإن كان يتجه إلى هزيمته. ينتظر على ضفة النهر ولو تأخرت الجثة، كما حصل معه أيام انطلاقة الثورة السورية وتجدد الخيبة إذ عاد وأعلن مبكراً أنّ بشّار الأسد باقٍ.
في لحظة الهزيمة أو التراجع، ينكفئ وليد جنبلاط إلى درزيته. شروط البقاء تفرض عليه الذهاب إلى التسويات. وعند هبوب نسائم أمل من طاقة ما، يعصف بمواقفه ليحوّلها إلى رياح تغييرية. رياح غزلها بيديه، ودماء رفيق الحريري كانت لا تزال على أرض بيروت. فكان التشييع لحظة التجسيد لخروج جنبلاط من درزيته إلى وطنيته. تجسّد المشهد الجامع في 14 آذار. وسمحت موازين القوى يومها بالشروع في ثورة الاستقلال، التي لاقت تعاطفاً دولياً وزخماً إقليمياً، مع جوّ متماسك عابر للطوائف معارض للوصاية السورية.
جسّد نظرته الجامعة في رمزية تبنّيه لجنازة ريمون إدّه في العام 2000، والتي تختصر بمعادلة لا “إسرائيل ولا سوريا”
إستبق تلك اللحظة، مع رفيق الحريري وآخرين، بمحطّات عديدة قبل الزلزال، مستفيداً من ميراث تاريخي للحركة الجنبلاطية الساعية دوماً إلى تكبير الطائفة بدور سياسي أوسع. من تجربة كمال جنبلاط في الحركة الوطنية، التي أراد وليد استنساخها في 14 آذار، أو ما سبقها، إذ جدّد لعبته في العام ٢٠٠٠، مسلّماً بفكرة مقاومة حزب الله، وداخلاً في حوار مع “الكتائب” و”القوات”، وقوى اليسار، وأوساط ليبرالية سعياً لتأسيس خريطة سياسية جديدة تقطع مع صفحات الحرب، وتفتح صفحات جديدة. فتأسّست بمفاعيله جبهة سياسية موضوعية بين ما كان سابقاً مصنّفاً في خانة اليسار والحركة الوطنية مع اليمين المسيحي، فاجتمعوا على مطلب وطني.
جسّد نظرته الجامعة في رمزية تبنّيه لجنازة ريمون إدّه في العام 2000، والتي تختصر بمعادلة لا “إسرائيل ولا سوريا”، فاتحاً آفاق التصالح مع ضمير المسيحيين وإزالة آثار حرب الجبل، بالحوار العميق مع البطريركية المارونية. كل ذلك أسّس للإعلان في العام ٢٠٠٤ عن الصدام مع منظومة الوصاية، الذي انفجر في معركة التمديد لإميل لحود.
وهو الذي ظنّ يوماً أنّ إنجاز التحرير مع انجاز المصالحة، وتحقيق رفع الوصاية، سيفتح الباب أمام إعادة صياغة التركيبة السياسية في لبنان. وكان أكثر المتحمّسين لطيّ صفحة الحرب وإنجاز دولة الطائف، لكنّ كسبيل وحيد يُزيل الخطر عن الطائفة الدرزية بشكل خاص وعن لبنان بشكل عام، ومن شأنه صيانة عدالة التوازن بين الجماعات، وإنهاء المشاريع الفئوية للطوائف. لكنّه أصيب بخيبة التضارب بين المصالح والمشاريع.
كل هذه الآفاق انسّدت أمامه. ضاعت الأحلام. الظروف اليوم تختلف جذرياً بالنسبة إليه. يعي بقوّة، مشكلة الثقة بين الحلفاء، والحسابات المذهبية الضيّقة، التي تقضي على أيّ محاولة لتشكيل جبهة وطنية جديدة. ويعرف حجم انعدام الثقة بين الناس والزعامات السياسية، وبينه وبين جمهوره أيضاً. الذي يعتبر أنّ رصيده كمناضل يسعى إلى خوض معارك سياسية تغييرية قد استنفد. ولذلك هو أول من تطوّع بعدم ركوب موجة ثورة ١٧ تشرين، لأنه يدرك التحوّل الجذري، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً الذي يعيشه لبنان.
وعيه الحادّ بالتاريخ يتيح له أن يكون على يقين بأنّ الظروف تكبّل أيّ مبادرة جديدة، وتُجهض أي جبهة قيد التشكل. الهاجس الأساسي أن يدفع الوريث ثمن ذلك بعدم التماهي مع المبدأ التاريخي للزعامة الجنبلاطية التي تسعى دائماً للخروج من الطائفة إلى الدور الأكبر وطنياً، وتكريس الطابع الجامع المتخطّي للفئوية الضيقة. وكلّ الخوف أن يبقى تيمور داخل المختارة وزعيماً لهذه الجماعة فقط.