كنّا نتأمّل غطاء الرأس المزخرف الذي يرتديه محمد مهدي الجواهري بنوع من السخرية الممزوجة بالألم. “أتعلمُ أم أنت لا تعلمُ/ بأنّ جراح الضحايا فمُ”.
كان محمد صالح بحر العلوم يحضر كلّ أربعاء إلى مبنى اتّحاد الأدباء القريب من ساحة الأندلس. كان يجرّ وراءه تاريخ ما قبل الحداثة الشعرية. يمكن النظر إلى الرجل بشيء من الاحترام المطعون بالشفقة. وهو ما كنّا نكرهه ونسعى إلى أن نقفز عليه متجاوزين تمرّدنا. فـ”بحر العلوم” الشاعر كان قد انتهى من تصفية حساباته مع الشعر. كم تأسّينا على أحلامنا التي ضاعت بين كتَبة البيان الشعري عام 1969 وخصومهم. أصمَّ آذاننا ضجيجٌ لم يكن ذا معنى. ذلك لأنّ البيان الشعري كُتب لكي لا يُفهم. كان الحبر يسيل بين أصابع مَن كتبه وهو يقرأ فقرات مترجمة من بيانات السوريالية. كانت الكذبة تتّسع فيما الحرّية تضيق. ذلك المساء الذي كنت أنظر فيه إلى ابتسامة عبد الوهّاب البيّاتي في مقهى السلام على نهر دجلة لا أنساه. قال “يا دجلة الخير”، وهزّ يده مستخفّاً. أصدر البيّاتي قبل وقت قصير كتابه “قمر شيراز”. وهو كما أرى أهمّ كتبه بعد “أباريق مهشّمة” الذي أصدره عام 1954. “أكان يسخر من دجلة أم من الجواهري؟”. نسيت سؤالي وأنا أردّد “مجنوناً بالنهر النابع من عينيها”.
نسينا أن نُحصي عدد الأمواج
كان النهر على يميني فيما تمسك يدي بيد الفتاة ذات الساقين الأسطوريّتين. لم تكن الأسطوانة تدور. كلّ ذلك الهواء، كلّ تلك الأشجار وعلى مقربة من تمثال شهريار وشهرزاد، كلّ أغاني الناس والناس أيضاً، كلّ آباء كنيسة اللاتين والأرمن وعبقريّة مصطفى جواد اللغوية، كلّ الطيور في سوق الغزل وعباءة جلال الحنفي وكتاب عروضه، كلّ التمتمات السومرية التي كانت تصدر من فم فوزي الرشيد، ولم يتأخّر موسى كريدي عن موعده في المقهى نفسه لكي تكتمل حفلة الصمت، كلّ الحانات فتحت أبوابها لسركون بولص، شبحه. حدث ذلك عام 1975. في كاليفورنيا صار يبحث عن مدينة أين. لم يكن في إمكاننا أن نصفح عن أخطائنا وكلّها أكاذيب. سنقول “بغداد” لأنّنا لم نرَ غيرها. ونقول “دجلة” لأنّنا لم نعِش على ضفاف الراين أو الدانوب أو السين.
لم يكن هناك دجلة لأبكي على ضفّته. ولم يعد في إمكاني أن أقول “بغداد لي”. لم أخبره أنّ الطريق قد أُغلقت وأنّ طائرة الشعراء قد احترقت في الجوّ وأنّ خبرتي بالطقس ستبكيني
“أنا عندي من الأسى جبلُ/ يتمشّى معي وينتقلُ”. كان الجواهري قد اختفى وراء كلماته المواسية. كنّا نخطئ في العدّ يا سيّدي. طرقنا أبواباً عباسيّة وسمعنا أصواتاً للجنّ وعبثنا بقبور مغوليّة وكتبنا قصائد على الماء ولبسنا ثياب مهرّجين وأقمنا تماثيل لكهنة لم يسبق لنا أن رأيناهم وعبرنا بخطى مشّائين على الماء. نسينا دفاترنا مفتوحة وحين عدنا وجدناها مليئة بنصوص مكتوبة بلغات لا نعرفها. يا سيّدي حاولنا أن نحصي عدد الأمواج.
امرأة تذهب إلى السوق ولا تعود
“حيّيت سفحك عن بعد فحيّيني/ يا دجلة الخير يا أمّ البساتين”. ولأنّ الشعر لا صديق له، فقد كنّا ننظر إلى دجلة كما لو أنّه خزّان شقاء ونردّد “ما مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع”. “سأنتظر مطر عينيك”، قلت لصاحبة الساقين الأسطوريّتين التي اختفت يوم اختفى الرفاق. “آلو ومتى تعود من السوق؟”، “لن تعود أبداً”، وأُغلق الهاتف.
ما الذي يعنيه أن تذهب المرأة إلى السوق ولا تعود أبداً؟
كتب الصوت كلماته بالكوفيّ المربع لكي تنزلق من الأذن إلى العين. ألا تكفي الصدمة لكي يخرج المرء من يفاعته ليكون الآخر الذي ستعلّمه الطبيعة الخشونة؟
“كن رجلاً”، ما معنى ذلك بالمقارنة بالشعر. لا يمسك الشاعر بقرنَي الثور. لم يفعلها لوركا قبل أن يموت. لم يكن الجواهري بقبّعته المزخرفة عقدتي. كذلك السيّاب الذي يصيح بالخليج “يا خليج”. كان بلند الحيدري يلبس ثياباً بيضاً يوم التقينا في بيت حاتم البطيوي في طنجة على الغداء عام 1990. حين عرف بأنّي أكتب الشعر تأمّلني وقال بهمس: “ستكون طريقك شائكة”.
لم يصل ساعي البريد
لم يكن هناك دجلة لأبكي على ضفّته. ولم يعد في إمكاني أن أقول “بغداد لي”. لم أخبره أنّ الطريق قد أُغلقت وأنّ طائرة الشعراء قد احترقت في الجوّ وأنّ خبرتي بالطقس ستبكيني.
كانت هناك تمارين من الشقاء. لن يرانا أحد مجتمعين في لندن. لن يتاح لي أن أشاركك خطواتك في الغربة. كنت في قبرك فيما كان الجواهري يرقد في قبره بدمشق.
غير مرّة كلّمتني الملائكة وأنا أضع ساقاً على ساق جالساً على كرسي أراقب القطرة الأخيرة التي ستمضي بحياتي التي لم أعِشها إلا في انتظار نهايتها
لم يصل ساعي البريد بعد. لا بلند ولا الجواهري وعداني بلقاء آخر. في براغ نظرت إلى عينيه القلقتين باحثاً عن دجلة الخير فلم أرَها. توهّمت أنّ الشاعر يخون قصيدته، غير أنّني فيما بعد تأكّدت أنّ العينين لا تكذبان. دجلة كانت هناك. غير أنّها لم تكن دجلة التي أعرفها. لكلّ عراقي دجلته. لا بغداد من غير دجلة. ولذاكرة البغدادي أمواج مستلهمة من أمواج دجلة. كان هناك مزاج بغداديّ فقَد طريقه إلى الأسطرة يمتزج برمل الشاطئ.
كنّا غرباء وكان يلذّ لنا أن نخاطب النهر بفكاهة “حيّيت سفحك عن بُعد فحيّيني/ يا دجلة الخير يا أمّ البساتين”. كانت هناك بساتين على جانبَي الكرخ والرصافة. كنّا صغاراً وكان النهر طويلا. سنذهب وتبقى دجلة. ولكنّ الجغرافيا خدعتنا. فلا جغرافيا من غير سياسة ونحن لا نجيد الكتابة على لوح النسيان.
غير مرّة كلّمتني الملائكة وأنا أضع ساقاً على ساق جالساً على كرسي أراقب القطرة الأخيرة التي ستمضي بحياتي التي لم أعِشها إلا في انتظار نهايتها.
*كاتب عراقي