على مفترق طرق إقليمية يتخبّط لبنان المأزوم، وتحاول كلٌّ من الدول المتصارعة في بحر المتوسط أن تجد لنفسها “مرقد عنزة” في لبنان. تركيا رجب طيب أردوغان من أبرز الوافدين. فمن بعد محاولاتها الدخول إلى ساحة الشمال، بين طرابلس وعكار، ها هي تطرق أبواب المخيمات الفلسطينية باعتبارها خاصرة لبنان الرخوة، من الجنوب أوّلاً.
الحضور التركي في المخيمات لا يرقى بعد إلى مستوى الحالة الشعبية، لكن من الواضح لأيّ مراقب أنّ هناك محاولاتٍ لمراكمة حضور مرئيّ من من خلال أشخاص مؤثرين، خصوصاً خطباء المساجد.
إقرأ أيضاً: تركيا وعقدة معاهدة لوزان
في مخيّم عين الحلوة الصيداوي، الأكبر بين مخيمات للاجئين الفلسطينيين في لبنان، تسلّل الأتراك إلى خطباء مساجد محسوبين على “حماس”، وعبر تقديم مساعدات إنسانية واجتماعية وصحية لأهالي المخيّم بواسطة جمعيات أهلية غير حكومية وعبر المؤسسة التركية للتنمية الدولية “تيكا” التي تقدّر ميزانيتها في لبنان حوالي 15 مليون دولار سنوياً. بحسب خبير إحصائي طلب عدم نشر اسمه،، تصرف “تيكا” هذه الميزانية على ترميم المساجد والطرقات والمستشفيات. وللمخيم الصيداوي جزء كبير من هذه الموازنة التي عادة ما تُصرف عبر أشخاص مؤثرين وبمعيتهم، وليس بشكل مباشر من المصدر التركي.
الشعب والحكومة التركية ممثّلة بالرئيس التركي أردوغان يدعمون قضيتنا والشعب الفلسطيني. وما اللقاء الأخير الحاصل في إسطنبول بين حماس وفتح وبيان الشكر لتركيا إلا دليل على مناصرة تركيا للشعب الفلسطيني
صحافي فلسطيني متخصّص في شؤون عين الحلوة، وطلب عدم نشر اسمه، قال في حديث لـ”أساس” إنّ تركيا تحاول تأسيس وجود “نخبوي”، أو تيار تحدٍّ بمواجهة تيارات عربية أخرى موجودة في لبنان. ويكشف بأن 12 خطيباً في عين الحلوة تموّل حركتهم “تيكا” وتوزّع مساعداتٍ عبر مساجدهم، التي يصدح فيها اسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطب الجمعة. والأكثر استعمالاً هو تأييد مواقف أردوغان الداعمة للقضية الفلسطينية، والإضاءة على مواقفه الإسلامية، ومنها مؤخّراً تحويله آيا صوفيا إلى مسجد والإشادة بالخطوة على أنّها “فتح عظيم”، وذلك بخلاف المساجد الأخرى التي تهاجم أردوغان أو لا تأتي على ذكره. كذلك يستثمر هؤلاء في حادثة سفينة مرمرة التركية التي حاولت فكّ الحصار عن غزة قبل 7 سنوات وراح ضحيتها 9 شهداء أتراك: “فهي رواية حاضرة بقوّة بالوجدان الفلسطيني”.
وهذا تأثير يعترف به شيخ من خطباء أهمّ المساجد عين الحلوة. وهو إذ يرفض نشره اسمه خوفاً من أيّ ارتدادات سلبية عليه داخل المخيم، يؤكد لـ “أساس” أنّ في عين الحلوة “17 مسجداً، 10 منها رئيسية يتسع أصغرها لـ500 مصلٍّ، و7 فرعية أصغر سعةً، يتقاسمها عشرات الخطباء، محسوبين على فصائل مختلفة، منها “فتح” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وقوى إسلامية أخرى، من بينها “عصبة أنصار الله” و”الحركة الإسلامية المجاهدة”. ويشير الشيخ إلى أنّ “الحماسة اتجاه تركيا موجودة بين الحمساويين الذين يملكون مسجداً رئيسياً في عين الحلوة هو مسجد خالد بن الوليد، ويتداور عليه أكثر من خطيب، بالإضافة إلى تداور عدد من خطباء “حماس” على 3 مساجد فرعية أخرى”.ويداوم هؤلاء المشايخ ورؤساء الجمعيات على زيارة السفارة التركية في لبنان والسفر إلى تركيا.
لا ينكر وليد الكيلاني، المسؤول الإعلامي لحركة “حماس” في لبنان، توزيع مساعدات تركية في المخيمات الفلسطينية فـ”الشعب والحكومة التركية ممثّلة بالرئيس التركي أردوغان يدعمون قضيتنا والشعب الفلسطيني. وما اللقاء الأخير الحاصل في إسطنبول بين حماس وفتح وبيان الشكر لتركيا إلا دليل على مناصرة تركيا للشعب الفلسطيني. ولا ننسى حادثة مرمرة، ولا ننسى أنّ تركيا هي الدولة الوحيدة التي نستطيع أن نأخذ فيزا ونذهب إليها من دون قيود”.
ويؤكد كيلاني في حديثه لـ”أساس” أنّ المساعدات التركية للشعب الفلسطيني، هي دعم معنوي ومادي من خلال مؤسسات “الهلال الأحمر التركي” وبعض الجمعيات الموجودة في تركيا، وهي إما عينية، غذائية، وصحية، أو معدات طبية، من بينها سيارات إسعاف: “واستطاعت حماس قبل 5 سنوات بناء علاقة ودّية مع تركيا وتأمين الدعم هنا كما هو الحال في الداخل الفلسطيني”. وهي مساعدات تأتي مباشرة إلى جمعيات رسمية فلسطينية ولبنانية، وليس عبر “حماس” بحسب كيلاني، وهدفها إنساني بحت: “أبوابنا مفتوحة لأيّ دولة أخرى تدعم المخيمات من دون شروط وقيود، فالمعاناة كبيرة”. لكن اتهام حماس بالعمل على تكبير حجم الحضور التركي في المخيمات “فمرفوض، وغير صحيح، لأننا كما جميع الفصائل لا نريد دخول أيّ دولة في الجانب الأمني داخل المخيم، تفادياً للمشاكل وحرصاً على وحدة الصف الفلسطيني”.
وجود محاولات عديدة ليكون لتركيا موطئ قدم في الساحة الفلسطينة، لأنّ القضية الفلسطينية ورقة يسعى الكثيرون للاستئثار بها لتمرير المشاريع، لكنّه أمر يدركه الفلسطينيون جيداً
محاولات الدخول إلى المخيمات “ليست جديدة بل موجودة من قبل ومن أطراف مختلفة، سواء إقليمية أو دولية لزجّ المخيمات في الواقع اللبناني”، يقول لـ”أساس” اللواء منير المقدح، نائب قائد الأمن الوطني في لبنان: “لكن استطعنا في ظلّ هذه الظروف الصعبة أن نبقي المخيمات بعيدة عن هذا الصراع. وموقفنا ألّا نتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وألّا تكون المخيمات ورقة في يد أيّ محور هنا أو هناك… وهذا قرار فلسطيني، ونحن حريصون على تطبيقه بالكامل”. ويشدد المقدح على أنّ “فتح” لم تسمح لأيّ مجموعة “بأن تستدرج المخيمات إلى أيّ محور أو متاهات داخل لبنان، وعنواننا العودة والحفاظ على أمن المخيمات وأمن الجوار”.
وعن استقبال المساعدات، يؤكد المقدح أنّ نسبة البطالة في المخيمات أكثر من 90% في ظلّ واقع اقتصادي وصحي صعب في لبنان ككلّ. ولذلك “كلّ من يقدّم معونة أو مساعدات للشعب الفلسطيني نقول له شكراً، شرط ألّا تكون مغمّسة بالدم أو بسياسية المحاور. وعلاقتنا إيجابية سواء مع إخواننا في حماس أو مع أيّ فصيل آخر. لكن قرارنا عدم جرّ المخيمات لأيّ محور. وهناك تنسيق دائم مع الجيش اللبناني من أجل المحافظة على رصّ الصفوف ورصد أيّ تحرّكات مشبوهة”.
الكثير من الفلسطينيين، اليوم باعتراف عدد من سكان المخيم، وعدد من المهتمّين بالشأن الفلسطيني، يجدون في تركيا الملاذ بسبب الغياب العربي، ويتهرّبون من إعطاء ورقتهم لإيران. ويؤكد المتابعون أنّ الأتراك حتى الآن لم يؤسّسوا حالة شعبية داخل المخيمات، لكن هناك نوع من التعبئة التي تمهّد لها “حماس” التي إذا أرادت ذلك “فسيكون”. لأنّها قادرة على ذلك.
عضو المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني هيثم زعيتر، يؤكد بدوره وجود “محاولات عديدة ليكون لتركيا موطئ قدم في الساحة الفلسطينة، لأنّ القضية الفلسطينية ورقة يسعى الكثيرون للاستئثار بها لتمرير المشاريع، لكنّه أمر يدركه الفلسطينيون جيداً”. ويرى أنّ محاولة الدخول التركي إلى المخيمات صعبة جداً، ولا يعتقد أن تكون المخيمات ستكون حضناً ملائماً للوجود التركي، نظراً لاعتبارات عدّة، أبرزها تباعده الفكري مع العديد من القوى الفلسطينية، والالتزام الفلسطيني بموقف مُوحد تجسد في إطار “هيئة العمل الوطني الفلسطيني”، التي تضم مُختلف الفصائل والقوى الفلسطينية وتلتقي في سفارة دولة فلسطين برعاية السفير الفلسطيني في لبنان أشرف دبور”.
وعن تأثير خطباء المساجد في هذا التأييد، يقول زعيتر لـ”أساس”: “خطباء المساجد يتوزّعون على مختلف الفصائل الفلسطينية، وخطبة الجمعة الأسبوعية تعتبر نقطة ارتكاز رئيسية تُذكر فيها المواضيع الحساسة التي تُعنى بالقضية الفلسطينية. ولذلك، نرى الشعارات التي يطرحها الرئيس التركي أردوغان تحرّك هواجس البعض ويتأثر بها البعض لفترة محدّدة، والبعض قد يرفع صوراً، ويقدِم على حرق صور آخرين ردّاً على مواقف معيّنة”.