ليست المرة الأولى التي يحاول بعض الشباب الطرابلسي الهجرة سرّاً عبر البحر بحثاً عن حياة كريمة في بلد آخر. وليست المرة الأولى التي تنجح السلطات القبرصية بتوقيفهم وإرجاعهم إلى لبنان. إنّما الجديد في ما حصل فجر يوم السبت الفائت في ميناء طرابلس ثم في جزيرة النخل (جزيرة صغيرة جداً قبالة شاطىء طرابلس) يوضع أمامه الكثير من علامات الاستفهام، من السؤال عن غياب الأجهزة الأمنية المعنية، إلى السؤال عما إذا كان فعلاً يُخفى عنها ما يخطّطه أكثر من ثلاثين شاباً، لهم ما لهم من أقرباء وأصدقاء وعائلات…
إقرأ أيضاً: حين ثارت العروس بأدبيات إسلامية و”طروبلسية”
هل هناك من أراد توجيه رسائل إلى قبرص اليونانية في هذه اللحظة الساخنة حيث جيوش العالم تحتشد في المتوسط الفرنسي والتركي واليوناني وغيرها؟ ومن دفع تكاليف الرحلة التي بلغت ما يقارب الألفي دولار أميركي عن الشخص الواحد؟ وهل الشاب الطرابلسي سيغامر في البحر إن كان يملك مثل هذا المبلغ؟
“أساس” تتبّعت حكاية بحر الشمال اللبناني وعلامات الاستفهام المتوقّع أن تغرق أجوبتها قبل عودة الهاربين من الفقر إلى منازلهم.
مردّ هذه الأسئلة إلى خروج نحو 30 شخصاً من طرابلس ومحيطها ليل السبت الفائت، على متن مركب، جمّع مجهولون – معلومون ركّابه على عجل. ويهمس بعض الذي التقيناهم: “هناك من دفع عنهم بدل الرحلة”.
السلطات القبرصية لا تعيد الناس بعد انتهاء مدة الحجر. بل تُفرج عنهم ويُخيّرون إلى أين يريدون الذهاب
أحد أبناء مدينة الميناء، وقد طلب عدم نشر اسمه، يحيط بتفاصيل ما جرى، ويروي لـ”أساس” أنّ “بدل الرحلة يتراوح بين 200 دولار لرحلة غير مضمونة، و 2500 دولار لرحلة نسبة الخطر فيها أقل، و30 ألف دولار لرحلة يشتري خلالها مجموعة راغبين بالهروب البحري، قارباً كبيراً، يجهزونه بالمعدّات اللازمة والطعام الكافي، وعندما يصلون إلى قبرص، يقومون بإغراقه على الفور ومن بعدها يدخلون البلاد”.
صاحب “اللنش” يكون من ضمن المهاجرين ويشترط أن يسافر معهم هو وعائلته مجاناً. يروي محدّثنا عن “لانش” حجزته السلطات القبرصية وكان في طريقه إلى إيطاليا مجهّزاً ببطاريات وقطع غيار، وخزّانات مازوت، ومحرّك ثانٍ، وطعام… وتوقف “اللنش” في قبرص للاستراحة، واحتجز من كانوا على متنه هناك، لكنهم لم يعودوا إلى لبنان. فالسلطات القبرصية لا تمنع أحداً من البقاء، على الرغم من انتشار خبر عن أنّ السلطات القبرصية أرجعت قارباً إلى لبنان وصل يوم الجمعة إلى شواطىء مدينة ليماسول، يحمل 33 لاجئاً (30 لبنانياً وثلاثة سوريين)، بعدما استأجرت قارباً خاصاً لهم، وحمّلته بالطعام والضروريات الأساسية، مع عدد من الممرّضات لضمان صحّتهم خلال رحلة العودة. لكن للتوضيح، فإنّ اللاجئين هم من طلبوا العودة إلى لبنان، ولم يتم إجبارهم على ذلك.
يقول المصدر لـ”أساس” إنّ “مركباً من أصل 8 مراكب وصل منذ ثلاثة أيام إلى قبرص على متنه 70 شخصاً، بين سوري ولبناني. وهناك مرضى بينهم من طلبوا العودة، بعد احتجازهم داخل مخيم لمدة 14 يوماً، هي فترة الحجر المرتبطة بخطر انتقال فيروس كورونا. والسلطات القبرصية لا تعيد الناس بعد انتهاء مدة الحجر. بل تُفرج عنهم ويُخيّرون إلى أين يريدون الذهاب. أما عن باقي الرحلات، فلم يعد أحد منهم. الجميع وصل وهم في الحجر حالياً”.
لماذا كنّا في السابق عندما نذهب في رحلات صيد، ونتخطّى المياه الإقليمية، يحضر خفر السواحل على الفور وينبهّنا؟ وحالياً هناك يومياً بين 6 أو 7 مراكب تغادر المياه الإقليمية. فكيف لم تلاحظها السلطات؟
وتابع قائلاً: “250 شخصاً حتى الساعة هاجروا بهذه الطريقة من طرابلس ومن وادي النحلة ومن المخيمات المجاورة. و450 من الميناء خلال السنوات الأخيرة”، مشيراً إلى أنّ “حالة البحر تساعد في السفر هذه الأيام. وهذا الوقت، في الصيف، هو فرصة لهم قبل حلول فصل الشتاء. ومن المتوّقع الوصول إلى رقم خيالي في الهجرة غير الشرعية خلال الأسبوعين المقبلين”.
ولدى سؤاله عن كيفية تأمين هذه المبالغ لتغطية تكاليف السفر قال: “بعض الناس باعت منازلها وسياراتها بنصف السعر. وأكثريتهم هرب بعدما استدانوا وقطعوا وعوداً بأنّهم سيعيدون الدين بعدما يجدون عملاً في الخارج. وهم يهربون من السيء هنا إلى ما يعرفون جيداً أنّه الأسوأ هناك. لكن كما يقولون: نتعب مدّة قصيرة وبعدها نرتاح”.
وختم المصدر قائلاً: “السلطات اللبنانية اليوم تغضّ البصر عن هذه العمليات”، متسائلاً: “لماذا كنّا في السابق عندما نذهب في رحلات صيد، ونتخطّى المياه الإقليمية، يحضر خفر السواحل على الفور وينبهّنا؟ وحالياً هناك يومياً بين 6 أو 7 مراكب تغادر المياه الإقليمية. فكيف لم تلاحظها السلطات؟”.
وفي التفاصيل لا تبعد الشواطئ القبرصية أكثر من مئة كيلومتر عن لبنان. البلد الذي يريد الكثيرون الهروب منه. وأهل البحر من رأس العريضة حتى الناقورة يقولون: “ابن طرابلس حافظ طريق قبرص على العمياني”.
المواطنة م. ح. هي جارة مهاجر أخذ معه أولاده وأحفاده على متن واحدة من تلك الرحلات. تروي لـ”اساس” تفاصيل ما سمعته في الحيّ عن جاريها س.هـ. و م. ب.، ومعهم أطفالهم: “نمنا وفقنا وانتشر خبر سفرهم وأنّهم عالقون في البحر بسبب تعطّل مركبهم ولا معلومات عنهم. والدتهم كانت تشعر بالخوف والقلق من احتمال غرق المركب كما اعتدنا ان نسمع بعدما تأخّر وصولهم. جاءها الخبر اليقين أنّهم تعرّضوا لحادث بسيط ومكثوا في البحر يومين تحت حرارة الشمس مما أدّى إلى تدهور صحتهم، وفور وصولهم إلى قبرص، نُقلوا إلى المستشفى”.
وبحسب “الجارة”، فإن كلفة نقل كلّ شخص لا تقلّ عن 5 ملايين ليرة، وعملية تهريبهم حصلت عبر إيصالهم قبل يوم من السفر إلى “الزيرة” (“جزيرة الأرانب”، كما يسمّي الطرابلسيون جزيرة النخل). هناك ينامون وفي اليوم التالي يذهب شخص وحده في القارب بحجّة الصيد، وعندما يراه الجيش ويؤمن طريقه، يتّجه إلى مكانهم ويستعمل gps لمعرفة الطريق”.
مصادر خاصة بـ”أساس” أشارت إلى أنّ “الأجهزة الأمنية اللبنانية قامت قبل أسبوعين بتوقيف قارب يستعمل للهجرة غير الشرعية، وأعادت جميع ركابه، إلا أنّ الأجهزة توقفت عن التدخّل مؤخّراً. وقد أعدّ للرحلة الأخيرة بسرعة. واللافت أنّ أحد الأشخاص هو من تكفل بسفر عشرين شاباً، ودفع بدل استئجار المركب، ما سهّل اكتمال العدد، والمغادرة بسرعة”.
من جهته الوزير السابق معين المرعبي قال لـ”أساس” إنّ “موجة الهجرة ظهرت إلى العلن بهذا الشكل الكبير بسبب ازدياد نسبة الفقر المدقع في الشمال. والسلطات اليوم تغضّ النظر عما يحصل لأنها مشغولة باتهامات داعش وأخواتها. أما إذا كانت السلطات تتقصّد ذلك، فمن الممكن أن يكون الهدف من هذا المخطّط تنفيذ الكلام الذي قاله جبران باسيل والرئيس ميشال عون للمجتمع الدولي: “سوف تشهدون موجات من الهجرة باتجاه اوروبا نتيجة عدم مساعدة لبنان”.
وختم قائلاً: “السلطات التي لم تستطع رؤية 2700 طن من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت كيف ستستطيع ضبط الشواطئ البحرية؟”.