تركيا وإيران.. البلدان العدوّان الصديقان!

مدة القراءة 7 د


من ينتظر تركيا أردوغان كي تنتصر له من إيران الخامنئي، فسيكون ذلك مضيعة للوقت، وذلك في كلّ مكان يتعاظم فيه احتمال الصدام المباشر بين جنود الدولتين. جلّ ما يحدث، هو قتال بالوساطة أو بالوكالة proxy wars، في سوريا على نحوٍ خاص، كما في أذربيجان، لأن هذا النوع من الحروب، يسمح بالتنافس على المصالح المتناقضة، على حافة الهاوية دون الوقوع فيها، فيما بين تركيا وإيران من مصالح اقتصادية حيوية لكلا البلدين أكبر بكثير من الشعارات السياسية أو الميول القومية أو الاختلافات الظرفية في بلدان أخرى.

إقرأ أيضاً: “تعبئة” تركية في “عين الحلوة”… أبطالها خطباء مساجد

خاض البلدان حروباً ضارية ابتداء من القرن السادس عشر، وانتهت بترسيم الحدود في معاهدة قصر شيرين أو زهاب عام 1639م. وهي المعاهدة التي ما تزال تحفظ خطّ الحدود بينهما، ما عدا المساحات التي خسرتها اسطنبول عقب الحرب العالمية الأولى وفق معاهدة لوزان عام 1923م إلا أنّ التدخّل الإيراني في العراق وسوريا، يثير شجون تلك الصراعات المزمنة بينهما، وينكأ مطالب تركية سابقة بحواضر كبرى مثل الموصل وحلب.

ما يمنع الحرب بين تركيا وإيران الآن، على الرغم من حروب الوكالة فيما بينهما، ليس المصالح المتبادلة فقط، بل كذلك المخاطر المتبادلة. وهي من الأهمية بحيث تلجم أيّ نظام مهما كان معادياً للنظام الآخر عن الولوج إلى المهلكة. هما بلدان متوازيان من حيث الكتلة السكانية، تركيا (83 مليون نسمة) وإيران (80 مليون نسمة). وفي كليهما أقلية مذهبية يمكن أن توالي الدولة الأخرى، في أيّ حرب، بغضّ النظر عن الشعور القومي، أو الانتماء الوطني.

ثمّة ما هو أكثر بكثير، في ظروف نشأة كلّ من الدولتين. فالصفويون ليسوا فرساً، وبينهم والعثمانيين الأتراك وشائج عرقية. وأصلهم سنّة، يرجعون إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي

وفي العمق، كثيرة هي المفارقات والتشابهات بين البلدين الجارين. في التاريخ كما هو الحاضر المعيش. التداخل والاختلاط في المسار التاريخي، يشيان بنتائج لا تخطر على بال المتحمّسين لتركيا أو لإيران حالياً. فلم تكن إيران الخصم الأيديولوجي أو المذهبي لتركيا، ولا العكس، عندما انطلق الصدام الدموي بين الصفويين والعثمانيين في القرن السادس عشر الميلادي، وتحديداً عندما رفع إسماعيل شاه الصفوي (توفي 1524م) راية المذهب الشيعي الاثني عشري في إيران، وحوّل أهل السنة بالقوة إلى التشيّع، مع أنه كان جاهلاً نفسه بأسس المذهب الذي يدعو إليه. ولم يبدأ التشييع المنهجي إلا في عهد ابنه طهماسب الأول (توفي 1576م) عندما طلب عون علماء جبل عامل. كذلك عندما تبنّى السلطان سليم الأول (توفي 1520م) المذهب السنّي الحنفي بعد قضائه على دولة المماليك (السنية)، واعتقاله آخر خليفة عباسي في القاهرة المتوكل على الله الثالث، وسوقه مع أعيان المدينة وعلمائها وحرفييها إلى اسطنبول، مستغنياً عن شرعية الخلافة العباسية. تسلطن سليم الأول من دون خليفة. ورحلت ذريّة آخر خليفة عباسي مخلوع إلى المدينة المنورة (عبد الرحمن الأنصاري، “تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الأنساب“).

ثمّة ما هو أكثر بكثير، في ظروف نشأة كلّ من الدولتين. فالصفويون ليسوا فرساً، وبينهم والعثمانيين الأتراك وشائج عرقية. وأصلهم سنّة، يرجعون إلى الشيخ صفي الدين الأردبيلي  (توفي 1334م)، وهو شافعي صوفي، تأثّر أحد أحفاده جنيد بن إبراهيم بحركات ثائرة تلتزم التشيّع الصوفي والممتدّ من خراسان إلى بلاد الأناضول، فتحوّلت الصفوية من طريقة صوفية إلى حركة سياسية. وكان للصفويين تأثير في الأناضول من خلال الدعاة. ولبس العمامة الحمراء من علاماتها القديمة، واشتهر بها التركمان القزلباش (أصحاب الرؤوس الحمر) (مصطفى الشيبي، “الطريقة الصفوية ورواسبها في العراق المعاصر“).

وفي المقلب الآخر، ترافق نشوء الدولة العثمانية مع انتشار أتباع الطريقة البكتاشية المـتأثرة في الوقت نفسه، بالطريقة اليسوية السنية، والطريقة البابئية الشيعية، وجمعت في عقائدها بين عدد من الأديان والمعتقدات المختلفة. ولم يحدث الفراق بين البكتاشية المتغلغلة في نخبة الجيش العثماني (الانكشارية أو الجيش الجديد) والسلطنة العثمانية إلا في عهد سليم الأول الذي وجّه لهم الضربات، بسبب انحيازها والتركمان القزلباش إلى الدولة الصفوية. وتراوح الموقف العثماني منها بعد ذلك، بين الشدّة والتسامح (ممدوح بري، “تاريخ التصوف في الدولة العثمانية الطريقة البكتاشية نموذجاً“).

ولن تتضح الصورة الجيوسياسية إلا بذكر سلطان المغول جلال الدين أكبر (توفي عام 1605م) في الهند، والذي عاصر الصدام الرهيب بين الدولتين العثمانية والصفوية في أيام طهماسب الأول وسليمان القانوني (توفي عام 1566م). وكان التنافس قوياً في بلاطه بين السنة والشيعة، وبين أتباع الديانات. فقرّر اختراع دين جديد، هو أقرب إلى دين الغالبية الهندوسية (Richard Von Gabre, Akbar Emperor of India). وكأنه كان ينأى بالهند عن صراع العصر.  

ما هو معيار هاتين الدولتين في الاقتراب من الدول الأخرى أو الابتعاد عنها، هل هي المصلحة الاقتصادية الآنية أو المستقبلية؟ هل هو مدى الالتزام الديني لهذه الدولة أو تلك، فتكون الأخوّة الدينية هي المعيار؟

هذه الصورة التاريخية المعقدة، من أيام الصراع العثماني والصفوي على أنقاض الخلافة العربية، تُبرز دور البكتاشيين ذوي الهوى الشيعي ببناء الدولة العثمانية، ودور الصفويين السنّيي الأصل في قيام الدولة الشيعية الاثني عشرية في إيران. وكلّ من العثمانيين والصفويين يُنسبون إلى العرق التركي!

فكيف يمكن توصيف حال البلدين العدوّين الصديقين الآن، وهما يتصارعان بالوساطة في سوريا، ويتفقان على الأكراد في كلّ مكان. يساعد أردوغان إيران في زمن الحصار الأميركي المطبق، ويبلغ التبادل التجاري بين البلدين ما يوازي 30 مليار دولار. هو بحاجة إلى الطاقة، وتحتاج إيران إلى تصريف إنتاجها النفطي وغيره. ويواجه أردوغان في الوقت نفسه إيران في سوريا، بدعمه الفصائل السورية أمام موجات شرسة من الهجوم العسكري المنسّق إيرانياً وروسياً لدحر آخر جيب للمعارضة السنية في إدلب. ويسقط قتلى كثيرون من الطرفين. وهذا ليس أقلّ تناقضاً، من دعم تركيا لأذربيجان الشيعية بغالبيتها وإن كانت علمانية، ودعم إيران لأرمينيا في إقليم ناغورنو قره باخ.

فما هو معيار هاتين الدولتين في الاقتراب من الدول الأخرى أو الابتعاد عنها، هل هي المصلحة الاقتصادية الآنية أو المستقبلية؟ هل هو مدى الالتزام الديني لهذه الدولة أو تلك، فتكون الأخوّة الدينية هي المعيار؟ هل هو التنافس الجيوسياسي في منطقة مزدحمة بآبار النفط والغاز وأنابيبه، ومضائق العبور إلى البحار المشاطئة للغرب؟ هل هو الشعور القومي الاعتزازي والمتعالي على الآخرين ولو باسم الدين والمذهب؟ وهل يتهيّب العدوّان تاريخياً صراعاً جديداً بينهما لا يُبقي ولا يذر، فيلجآن إلى المغريات الاقتصادية على الرغم من عوامل الاشتعال. وبهذا يكون الاتفاق الناجع، على إدارة الاختلاف الناجز، هو البديل المناسب؟

إنّ ما تؤكّده وقائع التاريخ كما الأحداث المعاصرة، أنّ رهانات بعض الرأي العام العربي بل أكثره، على خلافة عثمانية “إعلامية” ليس لها أيّ أساس. فالسياسات الأردوغانية لا تخرج عن حدود المزاج القومي التركي، الذي قد يكون تصالح مع الفكرة العثمانية كنوع من الحنين إلى التوسّع القومي، دون اعتماد المضمون الديني لمفهوم الخلافة، المختلف فيه، حتى بين الفقهاء. بل إنّ شعور التعالي القومي على العرب، عند شرائح واسعة من الأتراك، لا يختلف عن الشعوبية المتوارثة عند الفرس.  

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…